منذ الغلاف يطالعك الشاعر عبد الكريم الناعم ويمهد لك عن فحوى مجموعته الشعرية «أرحل هكذا» وكأن الحياة أثمرت في تجاربها وكل ماتحمله من صراعات وآلام وأحلام أن على الإنسان أن يلقي بكل أثقال العالم التي آثر أن يحملها في رحلة حياته الطويلة ويرحل هكذا لايلوي على شيء.
الزم الصمت عميقا.. وأحترف هذا السكوت
كي إذا كنت تموت.. تدخل البرهة..
من أقصى حدود السلس الصافي.. إلى أنس البيوت
ومجموعة الشاعر «أرحل هكذا» تضم قصائد تجاوزت في عددها المئة والستين تعود لمراحل وسنوات خلت جمعها الشاعر في هذه المختارات لذلك نرى هذا التنازع في المشاعر والحالات التي يعيشها الشاعر لأنها تنتمي إلى غير زمن، ولكن مع ذلك هناك خيط ذهبي يجمعها وهو الهم الوطني والانطلاق من آلام وآمال الشعب الذي عايشه وخبر همومه وخصوصا في السنوات الأخيرة التي كادت الحرب تودي بكل شيء من حولهم.
أمسك طيرا بلله بـ «الكاز وأشعله»
أطلقه في الزرقة يزقو.. وتأمله
لا أعرف جنس الفاعل.. لكن الطائر روحي
والشاعر يصنف في القامات الأدبية والشعرية الكبيرة، استطاع أن يحتل مكانته في الساحة الأدبية والشعرية، وشكل لنفسه نهجا ومدرسة في الحداثة وحمل مشروعا شعريا وثقافيا جادا، لم يستسهل ولم يبتعد عن رسالته الوطنية والتزامه في أن يكون صوت الإنسان الفقير والكادح والمقهور، ينقل الصورة بأسلوب جميل وفهم ناضج وواضح ومدهش ليصل إلينا طازجا يدك أعماق الروح دون منازع.
ماالذي يعنيه أن تقرأ.. أن تكتب.. أن تشرب..
أن تنمو أشجار على قارعة الوقت
وأن يدلف عصفور أخافته القذائف؟
ماالذي يعنيه أن تغفو وأن تصحو..
أن يلتبس الفجر..
وأن تبتكر الأبواب إغلاقاتها ظهرا
وأن تبلى الصحائف..
تفقد الأشياء معنى وتثغو..
حين طفل واحد قد يتمته الحرب..
ماينفك خائفاً..
ولايخفى على أحد كيف يحمل الشاعر الوطن في وجدانه وعيش كل صغيرة وكبيرة ولايستطيع إلا أن يكون المتفاعل مع الأحداث، كيف لا وهو الذي خبر الحياة بفرحها وحزنها، وعاصر الأحداث والحروب غير مرة، والألم لطالما اعتصر قلبه، فحوله إلى إبداع حقيقي ينبض بالحياة كما المرارة تماما:
قد كنت آتيك حيا.. فصرت رمزا يزار
تركت في القلب ندبا أبرد مافيها نار
عزاء روحي المعنى.. أن أنت للود دار
ويقول في قصيدته التي تفوح منها رائحة العطر:
لاعطر إلا عطر هذي الأرض..
حين أول انهمار سحه الأمطار
فهل شممت تلكم العطور؟ إن.. لا..
فأنت مبعد عن فتنة الخفي..
مما خلف ذلك الجدار
لم تكتشف مافي مدائن العلي..
من بشاشة الحبور
والشاعر يغوص في الوجدانيات ويأخذنا إلى عالم التصوف والتأمل، وقد أكسبته التجربة الحياتية خبرة استطاع من خلالها أن يقدم لنا عصارة فكره في شعر غني بالفكر والعلم وأيضا الحكمة بأسلوب هو أقرب إلى التكثيف والاختزال، حتى ليكاد شعره يتحول إلى عبارات تكاد تشكل بوصلة للقارىء يهتدي بها وتكون منارته في الحياة تكسبه المهارة الحياتية وتقدم له عصارة فكر ناضج لتكون هديه في الحياة.
حين الجهات زفرة مشحونة بالقهر والغصص..
فما الذي يعنيه..
أن تكون خارج القفص أو داخل القفص
والشاعر عبد الكريم الناعم من الشعراء القلة الذي ضمنوا مشروعهم الشعري القضايا الوجدانية وقضايا الإنسان والوطن بأسلوب رقيق جذاب يخترق أعماق القلوب دون عناء.
ومجموعته الشعرية «ارحل هكذا» ضمن سلسلة الشعر 5 للعام 2017، منشورات اتحاد الكتاب العرب، وتقع في 165 من القطع المتوسط.