ربما كان نجيب محفوظ الروائي العربي الأكثر جرأة فيما قدمه في روايته عن الحياة الاجتماعية في مصر، ومن منا لم يقرأ الثلاثية وزقاق المدق والقاهرة الجديدة والسراب وغيرها من الروايات التي فاضت بالهم الاجتماعي ورصدت عوالم لشخصيات صحيح هي من حبر وعلى ورق لكنها موجودة وحقيقية في المجتمع،
وحين سئل محفوظ عن الصورة التي رسمها للواقع الاجتماعي في مصر،ورأى بعضهم أنها تذهب بعيداً في المبالغة أجابهم: ما نقلته وصورته جزء من الحياة الاجتماعية،
هناك اكثر من ذلك فالحياة فيها كل شيء, وظلت روايات محفوظ شاهدا على تحولات كبرى عاشتها مصر وعاشها المصريون، فالرواية شاهد ابداعي على مرحلة من مراحل التحولات الكبرى، وليست بالضرورة تاريخا ولايمكن ان تكون كذلك، لانها مشغولة بتقنيات الابداع، وان كان احد كبار علماء الاجتماع (حليم بركات) الروائي والاستاذ الجامعي يرى انه من الضرورة بمكان ان تتابع الحراك الاجتماعي وان تقرأ تحولات المجتمع من خلال مسارب عديدة منها الرواية.
على هذا الاساس لايمكن ان نقول:ان أي رواية مهما كان مبدعها انها عمل تاريخي توثق لمرحلة ما، بمقدار ما يمكن القول انها مقاربة فنية لمرحلة مرت تناولتها عبر رؤى ابداعية قد تقترب من الحقيقة او تبتعد، ولكن اهميتها تتأتى من خلال قدرتها على الاقتراب من الحياة، وتمثلها واعادة نتاجها بشكل جمالي لائق، لايزيف الوقائع تجميلا ام تقبيحا، ان صحت التسمية.
وهنا تحضر الى الذاكرة ندوة لروائي مشهور، كانت منذ عقد ونيف من الزمن، فاض فيها الروائي بالحديث عن تجربته الابداعية المعروفة والاصيلة، وحين سأله احدهم عن الجزء الثاني لرواية صدرت له، وعلى ما يبدو كان الروائي يزمع العمل عليه، رد قائلا: ان الجزء الاول كتب يوم كنت في حماس الحياة والشباب، وكان ما كان، اما الان وانا في الثمانين من العمر فلن يكون الجزء الثاني الا باردا باهتا، ليس فيه نبض الشباب ولاروح العاطفة المشبوبة التي شدت القراء الى الرواية ووووو... وثمة ما اضافه الروائي لكن المجال لايسمح بذكره.
على اساس ماتقدم قرات، رواية المياه العائمة للراحل صميم الشريف، وهي صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب بدمشق، يمكن القول بلا أي تردد: انها رواية تحتفي بالحياة، تؤرخ فنيا لمرحلة من مراحل نضالات السوريين ضد الاستعمار الفرنسي، وتجري الاحادث والوقائع عبر اكثر من مسار، وبما ان الرواية بنت الحياة ومن نبضها فمن الطبيعي ان تلتقط بعض ما في عوالم المدينة من حيوات اخرى، بل من قال ان المدن يجب ان تكون معقمة، لاشيء فيها الا النور الذي يشع دائما وابدا..؟
في الوقائع والاحداث التي تتدفق عبر مجريات عدة تطالعنا الوان من الحياة بلوها ومرها، بشريفها، وقبيحها، بامراة تبيع جسدها، ورجل ينتقم، وشاب يقع في الحب البريء الى ان تختطفه لحظات الشهوة القاتلة والجسد الملتهب، رحلة حبه لفتاته المريضة التي كان لها عونا، وعامل شفاء في مرحلة من المراحل، الى ان يكون السبب في الفاجعة التي ألمت بها ودفعتها الى الانتحار في مياه النهر، وكانت السبب الاساس في تحوله، ومحاولة التعمد بالنار للوصول الى نقطة اللاعودة من دنس وقع فيه، وقد بدا ذلك ظاهرا من خلال عملية مكافحة الجراد في قرى الغوطة، وتلك المعركة التي خاضها في مواجهة الثعابين.
ومن يدقق في احداث الرواية فانه سيجد ان صميم الشريف، قد عمد الى تطهير من لوثته الحياة من خلال الاحداث والوقائع، فالمراة التي باعت جسدها، نالت عقابها، وكفرت عن ذنبها، والاب الذي بدا قسيا عنيفا مع ابنته تدفق حنينه وتفجرت عاطفته، وانسكب المجتمع الشامي بالثورة ضد الاحتلال الفرنسي متواشجا مع الثورات التي انطلقت في مختلف المحافظات السورية، وعلى نغمة التآلف واللحمة الوطنية بدا المشهد الوطني رائعا، الطلاب الذين عملوا على مكافحة الجراد وادوا دورا وطنيا هاما، وصولا الى كل ما جرى في العاصمة دمشق، يرسم الشريف لوحة لحياة فيها الحلو والمر، فيها الاخفاقات الكبرى عاطفيا واجتماعيا، لكنها جميعا تتعمد بطهر الوطن والاخلاص له.
المياه العائمة رواية تحتفي بنضالات السوريين كما هي الان بين ايادي القراء، اما جرى عليها من تعديل وكيف ومتى واين ومن فعله، فهذا اظن انه ليس من شأن القارىء الذي لايعرف حكايته ابدا، ما يهمه ان الرواية قد صدرت، ولكن القارىء المتابع جيدا لخيوط الرواية، والمطلع على خطابات تلك المرحلة وفرها سيجد ان ثمة مفردات ومصطلحات بالتاكيد ليست من مفردات تلك المرحلة ابدا، سيلمس القارىء ان وعيا زائدا مكتوباً بلغة اليوم يظهر على لسان بعض الشخصيات التي حملت ما لا يجب ان يكون لاسيما مع العمر الزمني، وقياسا بالمرحلة السياسية والفكرية والاجتماعية.
الرواية عمل ادبي، يحتفي بالنضال والعمل من اجل الوطن، ومن الجميل انها اثارت نقاشا جميلا ادى الى حراك نحتاجه لانه يثري العمل ويفتح افاقا جديدة للنقاش الذي افتقدناه من زمن طويل.
