سيريانديز ـ نجوى صليبه
ما تأثير الذّكاء الاصطناعي على التّرجمة ومستقبلها؟ سؤال مشروع للصّحفيين والمترجمين والمهتمين بحركة التّرجمة، وعليه يجيبنا المترجم الأستاذ الدّكتور نوفل نيّوف بالقول: "الذّكاء الاصطناعي أو "الصُّنعيّ" كما يروق لبعضهم تسميته، شأنُه شأنُ أشياء كثيرة في هذا العالم، كالنّار، والسّلاح، والعلم، والدّين، يمكن أن يؤدّي خدمةً للتّرجمة ومستقبلها، مثلما يمكن أن يكون سلعةً أو أداةَ تخريب وتلفيق وأذى، فمن جهة، يقدِّم الذكاء الاصطناعي بسرعة فائقةٍ معلوماتٍ كثيرة، وتعريفات أو توضيحات غنية تفكّ الغموض الذي يحيط بعدد لا يُحصى من الظّواهر والأفكار والوقائع التّاريخية، والمفردات والأمثال، ومن جهة أُخرى، هناك مَن يتّخذ من الذّكاء الاصطناعي أداةً لترجمة الأعمال الأدبيّة، وعلوم اللغة، وفروعٍ أخرى من العلوم الاجتماعية... ففي هذه الحالة التي بتنا نصادفها بوتيرة متزايدة، تقع التّرجمة في مطبّات ومفارقات تشوِّه المعنى، وتعبث بالمراد.. في هذا النّوع من التّرجمة تنوب الأداة عن المترجم المتبصِّر، الضّليع الذي لا غنى عن نباهته وخبرته من أجل فهم سياق النّصّ والجملة والعبارة والمفردة، والتّرابط النّحويّ، والصّور الفنّية، وظلال الكلام ومراميه الرّمزية وإشاراته المضمرة".
هذا ما يضع المترجم أمام تحدّيات كثيرة، تدفعه إلى تطوير أدواته لمواكبة المستجدّات والمتغيرات المتسارعة، يبيّن د. نيّوف: "عموماً.. يختار كلّ مترجم جادٍّ طريقه وأدواته التي يراها مناسبة لمواكبة المستجدات، لكن من الطّبيعيّ أن تختلف القدرة على هذه المواكبة بين الأجيال، أوّلاً، وبدرجة أقلّ بين أبناء الجيل الأكثر شباباً وانخراطاً في التّعامل مع معطيات التّكنولوجيا العالية اليوم، إلّا أنّ هذه الميزة "الأدائيّة" المهمّة لمصلحة الشّباب تمثّل في الوقت ذاته تحدّياً لهم، وتُلقي على عاتقهم مسؤولية إضافية، بدلاً من أن تُعفيهم، كما قد يظنّ بعضهم، من تعميق ثقافتهم، وتنويع قراءاتهم ومعارفهم، وإغناء خبراتهم التّرجمية بالاطّلاع النّقدي المتبصِّر على ما أنجزه من سبقوهم في هذا المجال، لا بالقفز فوقه، كما تُبيّنُ اليوم بعض الممارسات المؤسفة، أحياناً".
ولأنّ الأدب ليس ببعيد عن هذه المستجدات، رأينا عودة أشكال أدبيّة كانت غائبة عن الحركة الثّقافية كالهايكو والقصّة القصيرة جدّاً والخاطرة، كما ظهرت أشكال أخرى ما نزال مختلفين على تسميتها، وهنا لا بدّ من التّساؤل عمّا إذا واكبت حركة التّرجمة هذا المستجد، يوضّح نيّوف: "تلك "الأشكال الأدبية" أي (الهايكو، السونيت، الإبيغرام، الرباعية، قصيدة البيت الواحد...إلخ)، في الشّعر، و(القصة القصيرة جداً، والخاطرة...) في النّثر الفنّي، منها ما يعيش خارج بيئته الثّقافية زمناً يطول أو يقصر، ومنها ما يكون "موضة" عابرة، فالهايكو شكلٌ شعريٌّ ياباني، أدخِل إلى الثّقافة العربية قبل ثلاثين عاماً، على ما أذكر، عبر التّرجمة عن لغة وسيطة، وليس عن اللغة اليابانية الأصل، وسرعان ما وجد إعجاباً، وقلَّده بعضهم بدرجات متفاوتة من النّجاح... وأعتقد بأنّ قليلين جدّاً، ممن قلّدوا الهايكو عندنا، كانوا على دراية كافية بالنّماذج التي تمثّله حقاً، وبما بقي منها بعد التّرجمة.. إذ ليست المسألة مسألة إعجاب وتشابه وتقليد، أمّا "القصة القصيرة جدّاً"، التي تَنبت عادة في تربة امتلاء ثقافيّ ومعرفيّ قادرٍ على التّكثيف والاحتفاظ بحرارة القول، فإنّنا إذا نظرنا إليها عبر ما نُشِر منها بالعربية عندنا، نجد أنّ معظمَه يراوح بين الحِكمِ المتداولة في الشّعر العربي العمودي وبين الغموض الذي ينوب عمّا يسوِّغه من عمق ونزوع فلسفي، مثلاً.. وأما "الخاطرة" فهي ما تزال عندنا كتابة عاطفية، تستدرّ الدّموع، سائبةُ الحدود حتى الآن، في تقديري... لم ترتقِ بعدُ إلى درجة الكتابة الفنّية/الأدب. غالباً ما تكون تعبيراً إنشائيّاً، بكلام منمّق مطروق، عن مشاعر حبّ منشود ولوعةٍ واشتياق يكوي العشاق، أو خيبة وإحباط، ولوم وشكوى.. إنّها، في أحسن الحالات، بوحٌ نبيلٌ لا يتعب من بثّه مكلومون، حزانى، مغدورون، شباب ومراهقون".
أمّا أصعب الأنواع الأدبية ترجمة برأي الدّكتور نيّوف، وأيّها يفضّل، فيحدّثنا: "أترجم من الكتب ما يهمّني، وما أحبّ، ولم أترجم كتباً بطلب من أحد قبل أن تكلفني دار نشر عربية مرموقة بترجمة ومراجعة عدد من الأعمال الأدبية (2020-2022) من الرّوسية إلى العربية.. شخصيّاً، أرى أنّ ترجمة الشّعر، عموماً، هي الأصعب، فهي ـ بمعنى ما ـ تحدٍّ يتطلّب وجودَ ذائقةٍ شعرية أصيلة لدى المترجم، ومعرفةً جيِّدة بالشّاعر وشعره وحياته، لكن ترجمة الشّعر هي الأسهلُ في نظر مَن يترجِم ما لا يفهمُه بكلام لا يُفهَم".
ويلفتُ د. نيّوف النّظر إلى ملاحظتَين، "أوّلاً: قولي إنّ ترجمة الشّعر هي الأصعب، ليس حكماً مطلقاُ، طبعاً، بل هو يحتاج إلى حصر وتدقيق، فصعوبة ترجمة الشّعر درجات، إذ إنّ شعر الرّوسية (مارينا تسفيتايفا (1892-1941)، مثلاً، لا نظير لصعوبته في شعر عصرها.. ثانياً: إنّ الصّعوبة درجات في ترجمة النّثر الفنّي أيضاً (فلاديمِر نبوكوف، مثلاً!)، ولكنّي، فضلاً عن الشّعر، أترجم القصّة، والرّواية، والدّراسات النّقدية والنّظرية، والتّاريخية، أحياناً".
يكتب الدّكتور نيّوف الرّواية والقصّة والدّراسات، لكنّها كما غالبية الأدب العربي لم تجد طريقها إلى اللغات الأخرى، فهل الغرب غير معني بترجمة هذا الأدب؟ بمعنى آخر ألا يُزعج المترجم العربي بقاء حركة التّرجمة باتّجاه واحد؟ يبيّن د. نيّوف: "أوّلاً، إنّني لا أضعُ ولم أضَعْ نُصْبَ عيني هدفاً في يوم من الأيّام أن أرى القليل الذي أنشره من شعر أو نثر أو نقد، مترجماً إلى لغات أخرى!، ثانياً: الغرب دول متعددة اللغات والثّقافات، وهو - على أهميّته المميزة والإشكالية في الوقت نفسه، بالنّسبة إلينا على وجه الخصوص - ليس إلّا جزءاً من العالم المتعدد اللغات والثّقافات.. بالطبع، هناك مِن جانب الغرب علاقة الهيمنة، والنّظرة الاستعمارية الاستعلائية، والمركزية الأوروبية... وجملة من المسائل المعقدة الفاعلة في نظرته ومواقفه من ثقافتنا... لكنّي أشير أوّلاً إلى أنّ هذا الغرب قد ترجم منذ زمن بعيد "ألف ليلة وليلة"، وقرأها وقدّرها أكثر بكثير ممّا فعلنا نحن العرب... ثالثاً: إنّ وجود "تقصير مشبوه" من جانب الغرب تجاه ترجمة أدبنا إلى لغاته لا يعفينا من المشاركة بالمسؤولية عن هذه التّهمة، فهل بذلنا ولو جهداً ما، إحصائياً، أو ببليوغرافياً، لنعرف ماذا وكم ومتى ترجم الغرب، أو دولة واحدة من دوله، من أدبنا/ثقافتنا عموماً؟.. إن أحكامنا في هذه المسألة، كما في مسائل كثيرة غيرها، كثيراً ما تُبنى على تصوّرات عامّة لا يقوم حتّى الصّحيح منها على حُجّة وبرهان!".
قول يدفعنا إلى السّؤال عمّا إذا حققت التّرجمة الهدف الذي وجدت من أجله في ظلّ ما يشهده العالم من حروب سياسية واقتصادية وثقافيةً، يجيب الدّكتور نوفل نيّوف: "أعتقد بأنّ الهدف الذي وجدت من أجله التّرجمة، أي تبادل الخبرات والثّقافات والتّقريب فيما بينها والتّعرف على الآخر"، كما في سؤالك، لم تُسقطه الحروب ولا العداوات، لم تحجبْه أو تقلل من قيمة ما تحقق منه، ولن تفشل التّرجمة أو تتوقف عن السّير على الطّريق إلى تحقيقه في كلّ وقت".