سيريانديز-خاص
في مشهد بات يتكرر كلما ضاقت الخيارات التشريعية، عاد حاكم مصرف سوريا المركزي ليبعث الحياة في القانون رقم 56 لعام 2010 الخاص بالمصارف الاستثمارية، بعد أن سبقه بإحياء قانون التمويل العقاري رقم 39 لعام 2009. وكأن الزمن توقف عند تلك السنوات رغم أنها لم تكن كذلك في واقع اقتصادي شهد خلال العقدين الأخيرين تحولات عميقة وأزمات بنيوية أعادت تعريف مفاهيم الاستثمار والتمويل، وفرضت الحاجة إلى أدوات قانونية أكثر مرونة وحداثة.
الحاكم عبد القادر الحصرية أعلن عبر منشور على صفحته الشخصية في "فيسبوك" إعداد التعليمات التنفيذية للقانون 56 واصفًا الخطوة بأنها "نوعية" على طريق تطوير المنظومة المالية والمصرفية في سوريا وأن القانون يشكّل محطة مفصلية في تنظيم وترخيص المصارف الاستثمارية وتعزيز بيئة الاستثمار الوطني، بما يتماشى مع التحولات الإقليمية والدولية، لكن السؤال الذي يطرحه اقتصاديون عبر شبكة سيريانديز هل يمكن فعلاً مواكبة التحولات الدولية بقوانين محلية تجاوز عمرها 15 عامًا، ولم تخضع لأي تعديل جوهري منذ صدورها؟ وهل تكفي التعليمات التنفيذية المتأخرة لتجاوز فجوة الزمن التشريعي؟.
الحصرية شدد على أن القانون 56 يهدف إلى تنظيم عمل المصارف الاستثمارية وفق أفضل الممارسات العالمية، وتمكين القطاع المالي من تمويل مشاريع التنمية وإعادة الإعمار. إلا أن هذه الأهداف الطموحة، كما يصفها الاقتصادي تمام ديبو في حديثه لشبكة "سيريانديز"، تصطدم بمفارقة جوهرية يستحيل تحقيقها بناء على نصوص تشريعية لم تُحدّث منذ أكثر من عقد ونصف، في وقت شهد فيه الاقتصاد السوري تحولات جذرية، ليس أقلها أزمة شاملة أعادت تعريف مفاهيم الاستثمار والتمويل.
وفي المقابل، لا يزال القانون رقم 28 لعام 2001، الخاص بتأسيس المصارف الخاصة، نافذًا ويُستخدم كمرجعية في دراسة طلبات الترخيص. وهنا تبرز إشكالية أخرى، إذ يرى ديبو أن وجود قانونين ينظمان تأسيس أنواع مختلفة من المصارف دون إطار موحد يربط بينهما، يخلق حالة من التشتت القانوني ويصعّب على المستثمرين فهم البيئة التشريعية. ويضيف: "بين قانون في بداية الألفية وآخر في نهايتها، يقف المستثمر حائرًا: هل يؤسس مصرفًا خاصًا أم استثماريًا؟ وهل يحتاج إلى مستشار قانوني أم آلة زمنية لفك رموز التشريعات؟".
ويقترح ديبو دمج القانونين في إطار واحد لتبسيط الإجراءات وتوحيد الرؤية الاقتصادية للقطاع المالي السوري، معتبرًا أن التعددية القانونية في هذا السياق لا تعكس تنوعًا حقيقيًا، بل تعقيدًا بيروقراطيًا يُضاف إلى قائمة طويلة من التحديات التي تواجه الاستثمار في البلاد.
أما التعليمات التنفيذية، التي يُفترض أن تكون أداة لتطبيق القانون، فقد تحولت في بعض الحالات إلى أداة لتجميده أو تحييده عن أهدافه، بسبب تأخر صدورها أو عدم انسجامها مع روح النص التشريعي، ويطرح الاقتصاد محمود شريبا تساؤلاً مشروعًا: لماذا لا تُعرض هذه التعليمات على السلطة التشريعية قبل إقرارها؟ أليس ذلك ضمانة حقيقية لعدم خروجها عن أهداف القانون؟.
ويتابع شريبا في حديثه لشبكتنا إن تحديث المنظومة المصرفية في سوريا لا يتحقق بمجرد إعادة تدوير قوانين قديمة أو إحياء نصوص تشريعية تجاوزها الزمن لأن التحديات التي تواجه الاقتصاد السوري اليوم تتطلب أدوات قانونية مرنة وتشريعات حديثة تستوعب الواقع الجديد وتواكب المعايير الدولية وتمنح المستثمرين وضوحًا وثقة في البيئة التنظيمية.
وفي المحصلة إرادة التحديث لا تبدأ من إعادة نشر قوانين على صفحات التواصل الاجتماعي بل من مراجعة جادة للمنظومة التشريعية وإعادة بناء العلاقة بين النص القانوني والتعليمات التنفيذية وتفعيل دور السلطة التشريعية في ضبط الإيقاع القانوني للمؤسسات المالية وإعادة الإعمار لا تتم بالنصوص وحدها بل ببناء الثقة وتأسيس بيئة قانونية واضحة تنطلق من حيث انتهى الآخرون، لا من حيث توقفنا قبل عقدين.