منذ فترة طويلة والسياسيون الأوروبيون يشعرون بمشاعر متناقضة وعدم ارتياح حيال فضائل الأسواق المالية. لكنهم هذا الأسبوع رفعوا أصواتهم المستريبة والمتشككة في جدوى السوق إلى مستويات مرتفعة للغاية.

في ألمانيا، وصم الرئيس هورست كوهلر، في اندفاع حاد نحو اليسار في الخطاب السياسي الألماني، الأسواق المالية العالمية بأنها "وحش" لا بد من تحجيمه. وقارن المصرفيين في العصر الحديث بالسيميائيين في العصور الوسطى، وقال إنهم مسؤولون عن "التدمير الهائل للموجودات".

بالمثل أدان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أصحاب المضاربات المالية، وطالب "بإعادة تصويب الوضع الأخلاقي للرأسمالية". وفي إيطاليا، عاد سيلفيو بيرلوسكوني إلى السلطة بفضل حملة أعربت عن الارتياب العميق في العولمة. كذلك وزراء مالية الاتحاد الأوروبي مشغولون منذ فترة بإدانة "الوباء الاجتماعي الوبيل" المتمثل في الرواتب المفرطة للتنفيذيين. بل إن الحكومة الهولندية تسعى بقوة إلى استصدار قانون يضع سقفاً لرواتب وتعويضات التنفيذيين.

ربما يكون من السهل التهوين من شأن كل هذا الضجيج المعادي للرأسمالية باعتباره تعبيرات طنانة مبالغ فيها، وأحياناً متعِبة، يسوقها السياسيون الأوروبيون بحمية واندفاع لصرف الأنظار عن جوانب التقصير والإخفاق في أدائهم الاقتصادي.

وبالتالي، إلقاء اللوم على الأجانب أسهل بكثير من تطبيق إصلاحات السوق، البينة تماماً لكن المؤلمة سياسياً، والتي تفيد أكثر الناس المهمَّشين في بلدانهم هم أنفسهم. ففي كثير من المجالات لا تزال أوروبا في حاجة إلى المزيد من اقتصاديات السوق، وليس الأقل. ورأسمالية العلاقات في الأنموذج الألماني، التي تقوم على الصلات الحميمة بين الحكومات والبنوك والشركات الصناعية والعمال، ربما كانت فعالة بصورة رائعة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هذا الشكل من الرأسمالية أثبت قصوره الواضح في تغذية الابتكار وروح المشاريع اللازمة لبناء اقتصادات نشطة في عالم القرن الواحد والعشرين. إن كوهلر يخاطر بإثارة المزيد من مشاعر العداء ضد القوى المالية الحيوية التي تعمل في الأصل على إعادة إنعاش اقتصادات أوروبا وبث الروح فيها من جديد.

هذا الخط من المجادلة صحيح إلى حد كبير. ومع ذلك هناك تفسير حميد لملاحظات كوهلر، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنه الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي.

أولاً، من الصعب المجادلة بأن ما يقوله لا يشتمل على قدر كبير من الوجاهة. فكثير من البنوك تصرفت بالفعل بقدر فظيع، يكاد يصل إلى المستوى الجنائي، من عدم الإحساس بالمسؤولية. فقد أنشأت ووزعت منتجات استثمارية سامة عملت على تسميم أسواق الائتمان. وفي كثير من الحالات تمزقت الصلة بين المخاطر والعوائد.

ثانياً، ملاحظات كوهلر هي علامة على تزايد مشاعر القلق، إن لم تكن مشاعر الغضب الكبير عند الناس حول التطورات في عالم البنوك والشركات. وكل هذه الأمور تُثار على خلفية من الاستياء المتزايد في البلدان المتقدمة حول الآثار السلبية للعولمة والتضخم المتصاعد. وأظهرت آخر استطلاعات الرأي العام العالمي، التي أجرتها مؤسسة بيو في تشرين الأول (أكتوبر) 2007، أن التأييد للتجارة الحرة انخفض انخفاضاً حاداً في أوروبا، بل وانخفض انخفاضاً أشد من ذلك في الولايات المتحدة، خلال السنوات الخمس الماضية.

ووصف جون مونكس، الأمين العام لمجموعة اتحادات التجارة الأوروبية، ملاحظات كوهلر بأنها "موضع ترحيب وموزونة إلى حد كبير". وألمح إلى أن سياسيي أوروبا أخذوا في نهاية المطاف في إدراك الواقع. وقال: "لا أظن أنهم ينتقدون جوهر الرأسمالية، وإنما ينتقدون جوانب الإفراط فيها. إنهم ينتقدون ما يرون أنه نوع معين من الرأسمالية توسع بصورة هائلة منذ تحرير الأسواق الرأسمالية، خصوصاً في العالم الناطق بالإنجليزية في الثمانينات".

في كتاب قوي ومؤثر يتحدث عن تاريخ الرأسمالية العالمية في القرن العشرين، يذكر المؤلف جيفري فريدين، الأستاذ في جامعة هارفارد، أن العولمة لم تكن عملية باتجاه واحد. ويمكن إعادتها إلى الوراء، وتم ذلك بالفعل، مع نتائج مأساوية. ويمكن استخلاص نتيجتين من خبرة القرن العشرين مع العولمة. "الأولى، أن الاقتصادات تسير على أفضل نحو ممكن حين تكون منفتحة على العالم. والثانية، أن الاقتصادات المنفتحة تسير على أفضل نحو ممكن حين تعمل حكوماتها على معالجة مصادر الاستياء من الرأسمالية العالمية".

ويجادل المؤلف بأن التحدي أمام القرن الواحد والعشرين هو بالتالي "الجمع بين التكامل الدولي والحكومات ذات القابلية للاستجابة السياسية والمسؤولية الاجتماعية". ما رأي المؤلف في حُسن استجابة الحكومات اليوم؟ يقول المؤلف في مقابلة هاتفية: "في الولايات المتحدة، وإلى حد أقل في أوروبا، لم تعد العولمة تقدَّم في صورة إيجابية. لقد أصبحت كلمة سيئة. كان هناك قدر كبير من النشوة حول العولمة ويوجد الآن قدر كبير من الارتياب حولها". يعود بعض السبب في هذا إلى أن البلدان المتقدمة، خصوصاً الولايات المتحدة، كان أداؤها سيئاً من حيث الوقاية من الآثار السلبية للعولمة. لكن هذه القضية تتحرك الآن إلى قمة الأجندة السياسية.

بالنسبة للوقت الحاضر على الأقل، فإن استجابة السياسة في أوروبا يبدو عليها أنها أقل حدة بكثير مما يمكن أن يوحي به حديث السياسيين الذي تسيطر عليه النزعة الحمائية الجديدة. صحيح أن العبارات القوية التي استخدمها كوهلر ربما استعارت الكثير من لغة كارل ماركس، إلا أن العلاجات التي اقترحها تأتي تماماً من لغة صندوق النقد الدولي: اللجوء إلى تشديد الأنظمة الرقابية، ورفع نسب رأس المال الإلزامية في المؤسسات المالية، والمزيد من الشفافية، والمزيد من الإشراف العالمي على الأسواق المالية.

رغم أن مونكس يود أن تقوم الحكومات بدور أكبر لإعادة خلق رأسمالية المساهمين، إلا أنه بالتأكيد لا يتوقع أية قوانين جديدة كاسحة لإعادة التنظيم والرقابة في اقتصادات أوروبا، خصوصاً بالنظر إلى أن جماعات الضغط لصالح الخدمات المالية هي الآن "أكثر نشاطاً من عربة مليئة بالقرود".

يشعر فريدن شعوراً قوياً بأن التكامل الاقتصادي الأوربي، والعالمي، سيستمر لكن سيكون هناك "تصحيح في منتصف الطريق".

بالنظر إلى ما حدث في الأسواق المالية خلال السنوات القليلة الماضية ربما لا يكون هذا التصحيح أمراً سيئاً.