تجمل أدبيّات علم الإدارة أنماط المديرين وممارستهم مهامّهم في نماذج عامّةٍ، تنطوي تحتها مختلف أنواع ومناهج الممارسة الإداريّة، منها مثلاً: التشاركيّ، المتساهل، البيروقراطيّ، الميكيافيلي (المتآمر).
ترتسم ملامح الإدارة الميكيافيلية (المتآمرة) من خلال جملة خطوطٍ وألوانٍ، تعطيها خصائصها التي تميّزها عن سواها، وتسميتها بالإدارة المتآمرة؛ ينبغي أن لا تقترن بحكم قيميٍّ ـ أخلاقيٍّ لدى القارئ، فالارتكاس النفسي لمصطلح التآمر، يُفترض أن لا يمنع استخدامه أداةً علميّةً، تصف وتحدّد ماهيّة سلوكٍ إداريٍّ، هو في كل الأحوال؛ وبغض النظر عن وقع كلمة التآمر في نفوسنا؛ موجودٌ.
فالميكيافيلية لم تعد أسلوباً في الحكم، ولا تقتصر مقولاتها على الميدان السياسيّ، لأنها أغرت بعض المديرين بإتباعها في مؤسّساتهم، لامتلاكها منظومةً متكاملةً من المفاهيم و الأدوات و المقولات، تؤثّر في تفاعلات المؤسسات، ما جعلها تشكّل ميداناً ثريّاً لذوي الفضول العلميّ من أجل دراستها وتحليل أثرها في التفكير و الممارسة الإداريين، وحقلاً غنياً بإمكانات البحث و التقصّي لعلم اجتماع التنظيمات (سوسيولوجيا التنظيم).
أولاً: أدوات الإدارة الميكيافيلية:
تمثّل أدواتُ هذه الإدارة إفصاحاً عن ماهيّتها، وتجلّياً لجوهرها، إذ تتحوّل وظائف الإدارة (التخطيط ـ التنظيم ـ التوجيه ـ الرقابة ـ التنسيق) إلى أدواتٍ يستخدمها المدير لتحقيق أهدافه، فيتمُّ تجيير الخصائص التقنيّة لكلّ وظيفةٍ إداريّةٍ لصالح المسار التآمريِّ، و من أبرز الأدوات الخاصّة بهذا النهج:
1ـ الغاية تُبّرر الوسيلة:
هذا عنوان الميكيافيلية الكبير، وتحته تندرجُ شتّى الأنشطة و الممارسات المتعلّقة بالأهداف أو الوسائل، ويطالُ أثر تبنّي هذا المفهوم الأشخاصَ و التنظيم، فيغدو أيّ شيءٍ ممكناً و قابلاً للتبنّي، ما دام يسهم في تحقيق الهدف.
2ـ علاقةٌ متناقضةٌ مع المبادئ و القيم:
اتساقاً مع ما سبق، ومن أجل تحقيق الغايات يتمّ تبنّي المبادئ و القيم ليس تبعاً لماهيّتها و ما تملكه من قيمةٍ ذاتيّةٍ خاصّةٍ بها، بل بقدر خدمتها وإسهامها في تحقيق الأهداف، و المقصود بالمبادئ و القيم المعنى الواسع لها، وليس مدلولاتها الوجدانيّة و الأخلاقيّة فحسب.
فالصدق مطلوبٌ أحياناً و ليس دائماً، و كذا أمرُ تحقيق الربح، والاستماع إلى الآخرين، وتطوير المنتج..الخ.
و يخضعُ الركون إلى المعايير القانونيّة، والاقتصاديّة، و التنظيميّة ..الخ واعتمادها بوصفها محدّدات تُنظّم السلوك الإداريَّ إلى اعتباراتٍ آنيّةٍ ونسبيّةٍ وليست مطلقةً، و تُعتمد ازدواجيّة المعايير في التقييمِ و المحاسبةِ و التحفيز.
مثلاً: قد يُضخّم المدير أرباحاً صغيرةً، أو يدّعي تحقيق ربحٍ غير موجودٍ، وغالباً ما يستخدم المدير المتآمر سحر الأرقام، لتغطية إخفاقاتٍ، أو ادعاء إنجازاتٍ، مُبرّراً ذلك بما يُقدّمه فريقٌ من الأخصّائيين القانونيين و الماليين، إبعاداً لشبح معاقبته أو إقالته.
3ـ خلقُ النزاعات وتأجيجُ الصراعات:
يُطبّقُ المدير مبدأ \"فرّقْ تَسُدْ\" سنداً لرؤيةٍ تقوم على اعتبار الأفراد و مجموعات العمل خطراً في حال ائتلافها و اتفاقها، مع الإشارة إلى أنّ هذا المبدأ الجوهريّ في الإدارة الميكيافيلية خاضعٌ بدوره إلى نسبيّة الاستخدام؛ فتارةً يكون خلقُ الأزمات ومن ثمّ إدارتها مناسبٌ، و تارةً يصير ضروريّاً إطفاء الصراعات، و لو مؤقّتاً، وتارةً ثالثةً يكون تأجيل الصراع (خلقاً أو تأجيجاً ) ملائماً لمرحلةٍ أو هدفٍ ما.
تُوظّفُ المعلومات، وأهداف الأشخاص و الجماعات، و تغيير الحقائق، لإيجاد أو إذكاء أو تسوية أو لجم صراعٍ ما في الوقت الذي يلائم الإدارة، لتصبح الوحدات التنظيميّة ومراكز العمل أسيرةَ حدود وجدليّة صراعاتها، تجرفها تيّاراتُ ومتطلّباتُ النزاع، و ترسم مسارات نشاطها وخطّ سيرها تضاريس ساحة المعركة.
ولتوقيتِ تدخّل الإدارة في الصراعات (حلاً أو إنشاباً لها) أهميّةٌ حاسمةٌ في تعظيم استثمار مآلاتها ونتائجها، وغالباً ما يكون ذلك بعد أن تتعب أقطابُ النزاع مبديةً استعداداً للتنازل، فيجمعُ المدير تنازلات الأطراف، فتكون مكاسب له.
هكذا، يكمن سرُّ سيطرة المدير في توازن القوى للأطراف، و ليس في قواه الذاتيّة، ويكون تدخّله بإضافةٍ بسيطةٍ لقوى أيٍّ من الأطراف، فتظهر قوّة المدير بغير حقيقتها لجهة تأثيرها وحجمها.
لا يرى المدير المتآمر المؤسّسة بنيةً كليّةً تتألّف من بنىً جزئيّة متفاعلةً، ويُغفل المحاور الإنسانيّة للتفاعلات البينيّة بين مكوّنات المؤسّسة، وتقتصر نظرته إليها بوصفها ساحة معارك، أو رقعة شطرنجٍ، لكلِّ حجرٍ فيها دورٌ في توازن (أو صراع) القوى الشطرنجيّة.
4ـ تحطيم المنافسين الداخليين:
يُشكّل تحطيم المنافسين الداخليين أداةً وهدفاً في آنٍ معاً، يضمن استمرار الإدارة الميكيافيلية في وجودها، إذ يطال الفعل التآمريُّ كلّ فئةٍ أو شخصٍ مؤهّلٍ لأن يكون بديلاً أو معارضاً محتملاً لهذه الإدارة.
تُسخّرُ جميع مسارات العمل الإداريّ بأبعادها القانونيّة و الماليّة و التنظيميّة لإفراغ أي بوادر تغييرٍ من جوهره، و في طمس ملامحه، قبل اشتداد عوده، وانتشاره، وفي هذا تُستخدم شتّى أساليب الإقناع و الإكراه المتاحة، وذلك حسب الحال و طبيعة ومستوى المنافس المستهدف.
5ـ التحكّمُ الكلّيّ بالأشخاص و الوحدات التنظيميّة:
لا يدع المدير الميكيافيليّ أيّ شيءٍ خارج تحكّمه، فجميع الأنشطة ـ مهما كانت تفصيليّةً ـ تكون تحت رقابته المباشرة أو غير المباشرة، فالجميع مراقبٌ من الجميع، ولا يدري أحدٌ من يراقب من، والأداء محفوزٌ بالخوف من وشايات المقرّبين، ومن ضغوط المدير، وقدرته على تكييف القوانين و المعايير وفق ما يريد.
يُعتبر التدفّق المستمرّ للمعلومات عبر نظام الاتصال المميّز لهذا النمط (المرتكز إلى رقابةٍ سريّةٍ) الرافد الرئيس للأدوات الأخرى السابق ذكرها.
يمكننا أن نوجز دورة إنتاج و إعادة إنتاج الإدارة التآمريّة بحلقاتٍ مرتبطةٍ متبادلةِ التفاعل كما يلي: إخضاعُ الآخرين من أجل تلبية متطلبات الخلفيات النفسية والثقافية للمدير، وخدمة مصالحه، وبالتالي تحقيق أهداف المؤسّسة من خلال تحقيق أهداف المدير الشخصيّة.
ثانياً: أسباب اتباع المنهج الميكيافيلي:
1ـ ضعف السياق التنافسيّ للمؤسّسة:
عدم وجود منافسين للمؤسّسة يُتيح لبذور النزعات الشخصيّة أن تغدو أشجاراً باسقةً، فوجودهم يَحْفزُ العمل الجماعيّ، و يثير التفكير المؤسّساتي، و يجعل الجميع مضطرّين للمشاركة في صنع القرار، ويضعهم في موضع اجتراح الحلول، و إطلاق المبادرات التي تحمي وتعزز المواقع التنافسيّة للمؤسسة.
2ـ بيئةٌ عامّةٌ غير مؤسساتية:
يدعم وجود بيئةٍ عامّةٍ للعمل الإداريّ لا تحبّذ تفعيل الأطر و الأدوات التنظيميّة جهود الإدارة المتآمرة، و يرفدها بالمبرّرات اللازمة لتصرّفاتها، كما تُشكّل حاضنةً لها تمدُّها بنسغ الاستمرار، مُقدّمةً لها أساليب مبتكرةً ومتجدّدةً لتجذير ممارساتها، و تمتين بنيانها.
كما أنّ انحسار المحدّدات البيئيّة (القانونية ـ الثقافية ـالتقنية ـ الرقابية) يُضعف عوامل الردع الخارجيّة، و يُقوّض جهاز المناعة الداخلي (المقاومة داخل المؤسسة) ويجعله مشلولاً إزاء أخطار ومحاذير هذا النهج الإداريّ، وأيّ تحسّنٍ يطرأ على البيئة لجهة زيادة حيويّة فعلها المؤسساتي قد يأتي بعواصفَ عاتيةٍ تُطيح بهذه الإدارة.
3ـ صفاتٌ شخصيّةٌ للمدير:
برغم تنوّعِ و تداخل العوامل الحافزة على اتباع نموذجٍ معيّنٍ من الممارسة الإداريّة (تشاركيّة ـ بيروقراطيّة ـ متآمرة ..الخ) وارتباطها بحجم المؤسّسة و طبيعة نشاطها و ثقافتها و بيئتها، إلا أنّ لشخصيّة المدير وأهدافه وخلفيّاته الفكريّة و الثقافيّة و النفسيّة أثراً حاسماً ودوراً محوريّاً (مركزيّاً) في ذلك، منها:
(الميل الطبيعيّ للتآمر ـ عدم الإيمان بالمشاركة ـ فقدان القدرة على الحوار ـ اضمحلال القدرات القياديّة و القدرة على الإقناع ـ الخوف من فقدان المنصب ـ الأولويّة للسيطرة ـ تجربةٌ نفسيّةٌ خاصّةٌ مثل مرض الشك أو البارانويا..الخ ).
ثالثاً: نتائج الأسلوب الميكيافيلي:
1ـ نتائج تنظيميّةٌ:
أ ـ تهميشٌ منهجيٌّ مقصودٌ للسلطة الرسميّة، وتعاظم نفوذ المقرّبين حتى يتجاوز تأثيرهم تأثير من يحوز السلطة الرسميّة، و اعتماد سبلٍ غير رسميّةٍ للحصول على المعلومات (الرقابة السريّة).
ب ـ تكييف الأطر التنظيميّة لمتطلّبات إخضاع الآخرين، و تحقيق غايات المدير، بمركزيّةٍ مُغلّفةٍ بلبوس تفويضاتٍ وهميّةٍ، فمجلس الإدارة يصبح مطيّةً لتبرير وتمرير تصرّفات المدير، ومنح قراره صبغة الجماعيّة، كما قد يُستخدم للتهرّب من تحمّل المسؤوليّة، ومختلف المديريّات و الأقسام و الفروع تدور في فلك المدير، و يُكرّس تجاوز التراتبيّة الإدارية عبر تهشيم خطوط الاتصال العموديّة، وضعف واضمحلال دور الوحدات الاستشاريّة، و نشوء جماعات الضغط (اللوبي).
ج ـ الشخصنة: فالولاء للمدير وليس للمؤسّسة، و الحوافز شخصيّةٌ وليست عامّةً، وأصدقاء المدير يصيرون أصدقاء المؤسّسة، وخصومه الداخليين و الخارجيين هم خصوم المؤسّسة، والعمل يتمّ لإرضاء المدير.
2ـ نتائج على الموارد و الأداء:
يكون الإنجاز محدوداً في القطاع الذي يوليه المدير أهميّةً خاصّةً، وليس شاملاً، كما أنّه مؤقّتٌ، ولا يرتبط بسياقٍ ثقافٍّي متأصّلٍ. فقد تُحوّلُ الإدارة مجرى نهرٍ لسقاية نبتةٍ صغيرةٍ، وتترك غابةً لقدرها ومشيئة الطقس وتقلّباته.
ويُكرّسُ الالتفاف على المعايير و المقاييس، وبالتالي تزداد صعوبة قياس النتائج ومقارنتها بالأهداف، أما التركيز فيكون على الأداء ذي العائد الدعائيِّ الظاهر.
3ـ نتائجُ ثقافيّةٌ:
تلاشي الثقافة المؤسساتية، فالشفافيّة تصبح حلماً منسيّاً غير مُدركٍ، و المحاسبة غمامة صيفٍ غير ممطرةٍ، أمّا احترام الكفاءات فمشروطٌ بمصلحة المدير ومرحليٌّ، و التعاطف فذلكةً غير مجديةٍ، و يشيع تحقير قيم الالتزام، و تبرير السبل غير الشرعيّة في تحقيق الأهداف. ويلهث الجميع خلف سبل تحويل أظافرهم إلى مخالب، وأسنانهم أنياباً، لاستخدامها في الصراع.
أخيراً: تجدر الإشارة إلى تفاوت أثر هذه الإدارة من حيث العمق و الرسوخ تبعاً للمرحلة التي تمرُّ بها المؤسّسة المعنيّة:
أ ـ في مرحلة التأسيس؛ تؤدّي إلى بناء إرثٍ تنظيميٍّ وثقافٍّي وعلائقيٍّ تصعب إزالته من قبل أيّة إدارةٍ لاحقةٍ تنهج أسلوباً مغايراً.
ب ـ والمؤسسة التي تكون في طور النموّ، يُعاق نموّها بسبب استخدام عوامل النموّ وتكييف مدخلاتها وتفاعلاتها لأغراض المدير بدل تسخيرها لمتطلّبات النموّ.
ج ـ وإن كانت مؤسسةً ناضجةً؛ تقود الميكيافيلية إلى التضحية بالإنجازات السابقة، وتفكّك البنى و العلاقات و توفير البيئة المناسبة لدخولها مرحلة الاحتضار.
إجمالاً، لا تقدّم الإدارة المتآمرة إلا التأخّر و التخلّف، وهي على مستوى الوطن آفةٌ خطيرة تنهش مؤسّساته وقيم العاملين فيها، و الخطورة كلّ الخطورة أن يتماهى العاملون بمديريهم المتآمرين فينقلوا هذا النمط من التفكير و الممارسة إلى بيوتهم.. إلى زوجاتهم و أولادهم ليغدو المجتمع كله متآمراً، وبالتالي متآمراً عليه، وضحيّة حفنةٍ من المتآمرين (الكبار).
سلمتم.
Hsl.mahmoud@gmail.com