خمسة أيام من الموسيقى والغناء والرقص شهدها مسرح الدراما في دار الأوبرا في مهرجان قوس قزح سورية للفنون الشعبية حيث ضمت هذه الفعالية اللافتة عشرات العازفين والقوالين ومؤديي الدبكات والرقصات الشعبية التي امتزجت فيها ألوان الفلكلور على امتداد الجغرافيا الوطنية لتشترك في هذا المهرجان أعرق الفرق الفنية التي قدمت لوحة واسعة من تراث المنطقة.
المهرجان في دورته الأولى احتفى بطقوس الفلاح السوري وطريقته في التعبير عن فرحه بغلال الأرض والطقوس والشعائر والأعراس ومواسم القطاف والحصاد إذ جمع قوس قزح سورية هذه المرة أنساقاً ثقافية راكمتها هذه الفرق من التراث العربي والأرمني والشركسي والكردي والآشوري والسرياني والآرامي ليكون الجمهور على موعد مع خلاصة الفن الشعبي الذي قدمته الجزيرة السورية جنباً إلى جنب مع التراث الساحلي والدمشقي والجنوبي إضافةً لتراث البادية الشامية وما تزخر به مدن مثل حلب وحمص والرقة ودير الزور.
بداية المهرجان الذي افتتحته فرقة التخت الشرقي بإدارة الفنان نزيه أسعد تشاركت في يومها الأول من هذه التظاهرة مع فرقة أجيال للمسرح الراقص بإدارة الفنانين مجد أحمد وباسل حمدان وبداته الفرقتان بمقطوعة لموسيقا عزف ناي منفرد ليتبعها أداء فرقة التخت الشرقي لأغنية أبو الزلوف تلاه مقطع راقص لفرقة أجيال على أغنية يادلهو إضافةً للوحة راقصة أداها راقصو أجيال بعنوان عاليادي حيث برع كل من الفنان أبو أسعد بمشاركة الفنان حمدان في تقديم بانوراما غنائية حركية راقصة تجلت فيها كثافة التراث السوري وعبقريته في الرقص والزي عبر مجاميع الراقصين وبمشاركة الكورال الذي عبر صوتياً عن فرادة هذا التراث وتشابكه في الجملة والإيماءة وطرق التعبير الجسدي.
أنا في سبيل الله هو الموال الذي قدمته التخت الشرقي لتتبعه بموشح لما بدا يتثنى من التراث الحلبي أعقبه موال من التراث الساحلي بعنوان.. إذا مات وردك مات فلي إضافةً لأغنيات جبلية من مثل..علوش.. يا جميلة.. عيوش لتؤدي بعدها الفرقة الراقصة لوحة بعنوان الشام يا محبة وبمشاركة أصوات سورية واعدة من مثل عبد الوهاب الفراتي ومالك غريغو وحسام العلي وعلي الشيخ وتهامة سعيد ولينا الشاهين وأحلام ديب.
اليوم الأول من المهرجان المذكور كان حافلاً بكل أطياف الغناء الفلكلوري الذي زادت دار الأسد للثقافة والفنون من اهتمامها به في الآونة الأخيرة حيث قدمت التخت الشرقي أغنية من التراث الحموي بعنوان سمعت عنينك ناعورة إضافةً إلى لوحة غنائية من محافظة السويداء بدأتها بموال خسا مين قال عيشتنا ذليلة أتبعتها بأغنية لاكتب ورق وارسلك.
مقطع راقص وحيوي قدمته بدورها فرقة أجيال بعنوان عالعميم عالعمام رفرف يا طير الحمام إذ بدا واضحاً اهتمام فرقة التخت الشرقي باتجاهها إلى الموسيقى والغناء من التراث السوري وذلك لتعريف الحضور على المفردات التراثية بالطقوس المختلفة من كل المحافظات السورية.
اتجاه شاطرته فرقة بارمايا للرقص الشعبي السرياني الآشوري التي احتفت بدورها برقصات سورية من قبيل الخكا.. تولاما.. بازنايي على هيئة لوحات حققتها بارمايا بإدارة لافتة للفنانة رمثة اسكندر شمعون حيث تجلى في هذه اللوحات قدرة الجسد السوري على التعبير عن حيوية الجملة الموسيقية الكلدانية البابلية الآشورية التي ترجع إلى خمسة آلاف من السنين.
المهرجان عرف الجمهور على ما يشبه أنتروبولوجيا ثقافية برعت في تقديمها فرقة ميغري الأرمنية فعلى أنغام آلة الزرنة الشعبية قدمت هذه الفرقة رقصات من التراث الأرمني لاسيما الرقصات الحربية أو مايعرف برقصة السيوف حيث تمكنت كل من مديرة الفرقة ماري أسدغيك استبانيان ومدربة الفرقة أزاد سفريان من الانتصار لحركية جسدية قاربت في فنيتها العالية الفرق العالمية المختصة برقص الشعوب معرفة الجمهور السوري على غنى فلكلوري هائل جسد المأساة الأرمنية رقصا وغناء وعزفا ولاسيما الإبادة التي تعرض لها الشعب الأرمني على يد عصابات العثمانين في مطلع القرن العشرين.
اللوحات الشعبية الراقصة تجلت في الدبكات العربية من مثل.. الغربية واللوحة والنسوانية والطبيلة البداوية تماماً كما كان الحال مع رقصة القافا الفولكلورية التي قدمتها الفرقة الفنية للجمعية الخيرية الشركسية والتي جمعت في صفوفها نخبة من عشاق الرقص الشعبي بإدارة كل من آلاء يلجروقة وسارة بجدوغ اللتين قدمتا جهداً استثنائياً في تقديم لوحات عديدة من التراث الشركسي التي تتجلى فيه عراقة هذا الفلكلور وفرادته الحركية وقدرته التعبيرية عن الروح والحماسة الحربية والحب والإيثار.
فرقة آشتي للفلكلور الكردي كانت حاضرة هي الأخرى في المهرجان عبر لوحات عديدة من مثل الدبكة التقليدية ثلاث خطوات هورزة بازو إذ نجح كل الفنانين سوزدار سرحان و جان إيش في تدريب راقصيهم على إيقاعات وعزف البغلمة والبزق والقانون وبمشاركة لافتة من المغنيين سردار شريف و شكري سوباري لتكون الرقصات الحلقية عبر تشابك أيدي الراقصين وأقدامهم عبارة عن تجسيد لملحمة كردية صافية.
بدورها قدمت فرقة ياونا للرقص الآرامي بمشاركة فرقة لونا للغناء الجماعي لوحات من التراث الآرامي ممثلة بفلكلور مدينة معلولا حفاظاً على اللسان الآرامي ولغة السيد المسيح التي تحفظها قرى ومدن القلمون السورية حيث توجت هاتان الفرقتان برنامج المهرجان بدبكات تم اختيارها من منطقة القلمون حيث برز في اللوحات براعة المايسترو حسام الدين بريمو والفنان محمد شباط.
وشكلت الخطوة ميزاناً إيقاعياً في رقص الدبكات الشعبية العربية منها والكردية والآشورية والآرامية والشركسية وغيرها كونها نشأت على خط الحصاد الممتد من جنوب سورية الطبيعية حتى جبال آرارات ومن الجزيرة السورية إلى جبال الساحل السوري وتختلف من مكان لآخر في سورية إذ برزت في المهرجان الدبكة الآشورية الطرطوسية التي ترقص على الخطوة الرابعة بينما شاهدها الجمهور سريعة في دبكة هالأسمر اللون بينما في حلب يكون الدبك على إيقاع الخطوة السابعة والنقر في الخطوة الثامنة أما باقي الخطوات فكانت عبارة عن مشي موضعي وموقع.
وبينت الفرق المشاركة في المهرجان الغنى الحضاري من خلال الرقصات والأغنيات والأهازيج الشعبية فمراوحة راقصي الدبكة الدبيكة تختلف بين منطقةٍ وأخرى حيث يؤدي أهل جبل العرب دبكة الهولية على الخطوة الرابعة والسادسة متممين باقي الرقصة مشياً فيما يدبك أهل حماة دبكة البرزية على جمل خماسية ويؤدي أهل اللاذقية دبكة اللوحة على جمل سباعية وهكذا.
وعبرت الفرق المشاركة عن جمالية رقصات الدبكة السورية كرقص مشترك بين جمهور يقوم بتمثيله مجاميع الشبان والشابات أيام الأعراس والمواسم ويشترك فيه من يشاء ممن يحسن القيام بحركاته وسكناته وله إلمام بجميع أنواعه وإيقاعاته وأشعاره المقفاة من عتابا وميجانا وفروقات الزلوف والمعنا إضافةً للرقصات الكردية والسريانية والآشورية.
كما بين المهرجان غزارة أنواع التعبير الجسدي الإيمائي من خلال الرقص الشعبي الفطري الذي انتشر على شتى بقاع الأرض السورية كمدعاةً للفخار بالنسب والشباب ليبدو التفنن الحركي هنا عبر براعة الفرق المشاركة في الرقص كطقس جماعي ودي معتمدين في ذلك على الدبكة كنوع من الرياضة البدنية تارةً لمباراة الأدباء والقوالين الشعبيين وتارةً للتلذذ بأقوالهم ومأثوراتهم فيما تتخذ النساء من رقص الدبكة في البيئات السورية مناخاً للرقص والغناء والطرب.
ورافقت رقصات الدبكة في هذا المهرجان أنواع عديدة من الغناء اختلف في إيقاعه وسرعته حسب برامج الفرق التي قدمت خلاصات حركية وصوتية وعزفية فيما تألقت فرق أخرى في أداء بعض الدبكات دون غناء لخفتها ورشاقتها ورزانتها ووقارها كدبكات الدلعونا واللا اللا والمعنى ويالأسمر اللون والهولية.
الرقصات التعبيرية كانت حاضرة في المهرجان أيضا عبر مجموعة من الخطوات والحركات المتسلسلة مع ضربات أقدام منظمة شارك فيها الراقصون العرب والأرمن والشركس والسريان والكرد للتعبير عن عفوية المزاج الشعبي السوري المترافقة مع نقرات الطبل والبنجير والرزنة والبزق والطنبور في إشارة على قدرة الإنسان السوري على إبداع ثقافة الحياة في وجه الغزاة والهجمات الهمجية الظلامية والانتصار عليها بالفن والفكر وثقافة المحبة والانفتاح على الآخر واستيعاب مخزونه الحضاري وإعادة إنتاجه من جديد وفق صيغة وطنية جامعة.