بقوة هذه الحيويّة الإبداعيّة استطاعت فيروز أن تلتقي بمشروعٍ آخر شديد الاختلاف عن مشروع الأخوين، هو مشروع زياد رحباني، ولاسيّما أنّ هذا الرحباني الجديد المتفرّد لا يتوقّف عن السير بعيدًا عن مآثر أسرته، ليبدعَ مأثرتَه الخاصّة.
في البداية عجبتُ كيف تجاوبتْ فيروزُ مع اتّجاه زياد. ثمّ بدأتُ أتنبّه
كيف أَدخلتْ إلى ثورته، وإلى ما يبتغيه من تعرية الحياة وشغبِ الواقع، شعريّةَ الحلم، وشقاوةَ الطفولة، حتى سربلتْ لحنَه بالحيرة. فزياد، المتمرّدُ على الرومنسيّة، له مشروعُه الخاصّ ورؤيتُه المختلفة كليّاً عن رؤية المؤسِّسيْن ومشروعِهما. وعلى كلّ حالٍ ليس تقليدُ الأخوين رحباني ممكنًا، وأيُّ محاولةٍ من هذا القبيل ليست في مصلحة الأخوين ولا مصلحةِ الأبناء أيّاً كانوا. وهكذا نجا زياد بعبقريّته وتفرّده. ومضى يُسقط الهالاتِ عن المقدَّسات الفنيّة وعن الماضي المؤسطَر. وإنّ أغنياتٍ من قبيل "كيفك إنت" و"مش كاين هيك تكون" لهي نوعٌ من البارودي،أو نسخةٌ كاريكاتوريّةٌ عن أناشيد الحنين إلى الماضي.
مشروع زياد، فضلاً عن الرؤى الخاصّة والطموحات الفنّيّة المميَّزة، هو مشروعُ كسر اليوتوبيا أو تعريتِها وإقامةِ الراهن. فزياد ابنُ الزمن الحاضر، وصائدُ التحوّلات والانكسارات في إيقاع العالم وصورته. إنه صائدُ الأصداء، وترجمانُ شبيبةٍ تبحث عن نفسها على امتداد العالم. منحاه، بالإجمال، هو منحى الانقلاب على الرومنسيّة، أكثرَ مما هو انقلابٌ على الأب. ولقد سعى في انقلابه إلى استدراج فيروز في ثورته هذه . وإذا كانت فيروز لم تصدّ موجةَ زياد، فإنها بمجرّد استقبالها ومواكبتها إيّاها قد حوّلتْ طابعها. ولهذا كان لا بدّ لزياد من الاحتفاظ بميادينه الخاصّة، يوطِّد فيها ركائزَ ثورته، بعيدًا عن سحر فيروز.
وقد نتساءل: كيف أمكن فيروزَ، التي كانت عمادَ المشروع اليوتوبيّ الأول، أن تتفقَ مع مشروع زياد الثائرِ على الرومنسيّة، والعائدِ بقوّة إلى العالم اليوميّ، عالمِ الحياة العاديّة أو عالمِ الحضارة الراكضة نحو التمازج ونحو المجهول، في إيقاعه وتفاصيله وبُعده عن مثاليّات القرن التاسع عشر؟
الحقّ أنّ زيادًا استدرج فيروزَ إلى الإيقاع اليوميّ الحيويّ الذي يعمل على اكتشاف جماليّاته الخاصّة. استدرجها إلى عالمٍ فيه انكساراتٌ، وتغيّرٌ، واغترابٌ، واقتحامٌ لتناقضات الواقع وعريِ الحياة اليوميّة. وفيروز، من جهتها، أقامت بين هذه الرؤية وصوتها حوارًا وتساؤلاً وإلغازًا. ولكنْ إذا كان مشروعُ زياد قد حاول انتزاعَها من الأسطوريّ المثاليّ واليوتوبيا الرحبانيّة، ودَفَعَها في اتجاه اليوميّ واللعب العفويّ المجّانيّ، فإنها بدورها سعت إلى خرق مشروعه وإلقاء ظلالٍ شعريّةٍ عليه.
في هذا الازدواج والتمايز الذي يمثّله الخطّان العبقريّان لآل الرحباني (خطّ الرائديْن وخطّ الابن) ، كانت فيروز وحدها هي التي جَمعت الضفتين المتباعدتين، لكنْ من دون أيّ تنازلٍ عن خصوصيّتها المميّزة، أو أيّ تداخلٍ والتباسٍ بين الاتّجاهين. وكما حملتْ فيروز موسيقى الرحبانيين "الأبوين أو الرائدين" على أجنحة صوتها لتسير بموسيقاهما الركْبان، كما يقال، ولتبني بهذا الصوت أولمبَ الجمال، استطاعت أن تستقبلَ عبقريّةَ الرحباني الابن، الجديدِ المتجدّد، الذي غادر يوتوبيا الأبوين (عاصي ومنصور) في اتّجاه القبض على العالم في إيقاعه اليوميّ ونبضه اللاعب المتحوّل. وها هي فيروز في هذا المشروع الجديد تستعيد ألاعيبَ الفتوّة، من دون أن تتنازل عن أبعادها الروحيّة.بيروت
*خالدة سعيد: ناقدة أدبيّة.