الأربعاء 2020-05-05 22:51:42 **المرصد**
الصنعة مع الشهادة وقبلها
كتب رشاد أنور كامل:
عندما كان ابي يحتضر من مرض السرطان في نهاية عام ١٩٧٤، كان كلما زرته في المشفى وبعدها بالبيت وانا ابن التاسعة، يطلب مني ان أتعلم صنعة...
وكل مرة امي تعترض على توجيهاته لي، وتقول له: معقولة ابن دكتور مهندس وأستاذ في الجامعة وأمه استاذة جامعية ايضاً وبدك ياه يتعلم صنعة!!!، انصحه ياخد دكتوراه متلنا..
وابي المنهك من المرض كان يجيبها: الصنعة قبل الدكتوراه، الصنعة بتفيده اذا البلد خذله...
بعد سنتين من وفاته وكنت في صف السابع قررت امي الاستجابة لوصية ابي لكن بما لا يخالف مبادئها العلمية، فوافقت ان ادخل بدورة لتصليح الراديو.. فهي صنعة لكن تحتاج علم..
وعندما ذهبنا للتسجيل بالدورة فوجىء مدير الدورة بعمري الصغير، ووضح لأمي أن كل من يحضر هذه الدورة كبار واني قد لا استطيع مجاراتهم في الاستيعاب!!
وافقته امي ولكنها اصرت على إدخالي دون اَي توقعات وأنها تعتبرها بداية لا اكثر ، وامام إصرارها وإصراري ، فعلاً دخلت الدورة.
وتعلمت عن الصمامات، كون كان هناك راديوهات تعمل بالصمامات تلك الايام وتعلمت عن الترانزستورات والمكثفات والبث و المقاومات وكيف نلتقط تردد إشارة راديو، لا اعرف كيف مرت تلك المعلومات بشهرين ونصف ولكنها مرت، ويوم الامتحان ، حتى مدرس الدورة قال لي لايهم ان تنجح المهم انك حضرت الدورة، تمهيدا لي انني قد لن اكتشف الأعطال التي سيضعها امامي لإصلاحها ، واذكر تعابير  وجهه، وهو يتابعني اشرح الدارات، وافحصها بتسلسل الى ان اكتشفت الدارة المعطلة والمكون المفصول فيها، ووضعت قطعة لحام ولحمتها على الشاسيه، وصدح صوت الراديو بأغنية لا أنساها الى الان " يابلادي يا بلادي خدي شادي بكر ولادي".
عدت الى البيت مع شهادتي بأني خبير اصلاح راديو (لمبات وترانزيستور) اظن ان الشهادة عندي الى اليوم... في مكان ما..
من يومها اتعامل مع الكهربائيات واعرف عنها الكثير...
لكني لم أتحول لمصلح راديو وتلفزيون ...
وأثناء دراستي لهندسة الميكانيك، رعاني صديق والدي الدكتور عبد العزيز عرار وكان خبيراً بالمعادن والقطع والتشكيل، ومرة قال لي تعال واعمل عندي في التدفئة والتكييف هذه صنعة تطعم خبزاً وبعدها اكمل الدكتوراه وخذ مكاني في تدريس مادة القطع والتشكيل...
في تلك الايام اخترت أن ادخل عالم التقنيات، وتحديت نفسي واخترت ان أتعلم صيانة اهم جهاز طبي بزمانه في سورية جهاز التصوير الطبقي المحوري...
وهذا ماتم
وعلمت نفسي البرمجة 
من برمجة الآلة 
الى البرمجة بلغة البيزيك
ودخلت عالم التقنيات الطبية من اوسع ابوابه....
وبعد ثلاث سنوات من عمل دربني فيه خالي اكرم والدكتور فتحي الحلواني رحمه الله ، كان يجب ان أكون مهندس صيانة اجهزة طبية
وكنت لانجح...
لكني وقعت في حب معامل الرخام وتصنيع الرخام ، وبدات فعلياً باختراع آلات قطع رخام متخصصة، وحتى بدأت فعليا بدراسة ادخال آلات قطع رخام موصولة على الكمبيوتر ، وتقطع بالماء المضغوط ، وكانت أيامها اَي ١٩٩٠ لايوجد من يطبق كل هذه التقنيات على الرخام في سورية، ولجديتي بالموضوع بعت نصف بيت ورثته عن ابي ودفعت عربون المكنات، لكن حرب العراق الاولى باغتتني، وتوقف العمل سنة، لأجد بعد سنة ان كل ما خططت له تبخر... من شركاء مهتمين، ومكان مناسب ... 
ولكن ليس هذا هو السبب فعلياً، انا قررت ان اعمل كمستشار تقني ....
كانت وقتها تلك المهنة مطلوبة ومغرية، كنّا في سورية نعد على أصابع اليد....
اليوم وانا استعيد الفرص، فرص مهن حقيقية، مقابل اغراءات مهن فكرية، استطيع ان أقول لكم ، اني فهمت لما كان ابي يصر علي ان أتعلم صنعة...
كان يعرف بلاده مثلما اعرفها الان
كان يعرف ان العمل الفكري مضيعة للروح ...
وان الصنعة قد لا تعطيك مجداً لكنها ملاذ يعتمد عليه
ولذلك انقل لكم أولادي السوريين في كل مكان وصية ابي وأصدقائه
" تعلموا صنعة"
اَي صنعة
بلاط ، حداد، كهربجي، شوفاج، اصلاح سيارات، نجار عربي ، نجار فرنجي، صحية، منجد، صائغ، مبرمج ، خياط ...ولائحة الصنايع تطول
 وهي مهن ايضاً مفيدة للصبايا كما هي مفيدة للشباب
 ومربحة ...
خذوا شهادات ولا تقصروا بذلك ابدا
ولكن تعلموا الصنعة وأتقنوها ، حتى تكون لكم مسند وظهر عندما تعصف بكم شهاداتكم وخبراتكم
في بلاد مثل بلادنا 
لا تستطيع ان تتنبأ بالغد 
راهن على يدك
لا تخجل ولا تتردد 
ولا تنتظر ان تتوظف 
وظف نفسك
...
فالأيام القادمة 
تشبه ما سبقها
...
ببساطة
...
صعبة
قد لا يكون فيها امام شاباتنا وشبابنا
الا الصنعة 
ورحمك الله يا ابي 
ورحم الله اساتذتي ممن لم يقصروا في تعليمي
وحمى الله من كان منهم حياً كما عهدته يكافح علماً وصنعة
...
اَي نعم
 
 
 
ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024