سيريانديز ـ نجوى صليبه
يذكر سقراط في كتابه عن فنّ الشّعر ـ والذي يطلق عليه عادةً "بويطيقا" ـ أنّه تناول أشعاراً ألّفها أصحابها بعناية فائقة، وأنّه عندما سأل كلّ شاعر عمّا عناه بشعره، لم يستطع أحدهم الإجابة، ويذكر أيضاً أنّ مجلساً جمعه وإيّاهم، وضمّ كثيراً من المعجبين بهم وبأشعارهم، وكان أيّ رجل من الحضور قادراً على التّحدّث عن تلك الأشعار أكثر من الشّعراء أنفسهم، ويقول: "لقد أدركت أنّ الشّعراء لا يكتبون الشّعر لأنّهم حكماء، بل لأنّ لديهم طبيعة أو موهبة قادرة على بعث الحماسة فيهم"، وهذا ما لا يتّفق معه كثيراً الكاتب "لاسل آبر كرمي" في كتابه "قواعد النّقد الأدبي" ـ ترجمه إلى العربيّة الدّكتور محمد عوض محمدـ، إذ يقول: "من الجائز جدّاً أن يكون الشّاعر أو القارئ للأدب ناقداً قديراً، ومن الجائز أن سقراط لم يكن موفّقاً في شعرائه الذين حاورهم ذلك الحوار، وليس بمعقول أنّ جميع شعراء عصره كانوا عاجزين عن أن يبيّنوا للنّاس ما عنوه بشعرهم، ومن الجائز أن يكون هناك أشياء في الأدب ما لا يتناوله النّقد، كما أنّ بعض نواحي الاستمتاع الأدبي قد لا يدخل في نطاق النّقد، لكن كلا هذين نادر جدّاً".
ويظهر سقراط الفارق بين تأليف الأدب ونقده، وعليه فإنّ المقدرة على تذوّق الأدب تختلف عن المقدرة على تحليله فنّياً ولغوياً ومنطقيّاً وجماليّاً، وعلى من يتنطّح لهذه المهمّة أو هذا النّوع الخاصّ من العمل الأدبي أن يتمتّع بسمات وملكات شخصيّة وثقافية وأدبية تخوّله لأن يقدّم نقداً موضوعياً بعيداً عن المصالح والعلاقات الشّخصية والتّعصّب لفكرة دون أخرى، ولعلّ أولى هذه السّمات التّمكّن من اللغة، ولاسيّما في ظلّ الواقع المرير للغتنا العربية، وهنا نقول ـ بأسف شديد ـ يوجد كثير من النّقاد ـ أو الذين يقدّمون أنفسهم كنقّاد ـ لا يستطيعون ترتيب أفكارهم بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ، بل إنّ البعض ومن خلال ما نشاهده في النّشاطات والنّدوات الثّقافية غير قادر على القراءة بشكلٍ سليمٍ من الأوراق التي أمامه والتي كتبها بنفسه، وتالياً من لا يمتلك اللغة لا يمتلك القدرة على ترجمة أفكاره بسلاسة وتتابع منطقي وتقديمها تحت مسمّى النّقد.
هل النّقد موهبة أم مكتسب؟ سؤال يطرحه بعض الباحثين، ويخوضون في غماره كثيراً، لكن أيّاً يكن لابدّ من صقله وشحذه لتقديم ما يليق بالنّقد ذاته كفنّ أدبي، ومن ثمّ يليق بثقافتنا وأدبنا وأخلاقياتنا الأدبية أيضاً، وتالياً نشر هذا العمل أو الفنّ الأدبي بالوسائل كلّها، نستشهد هنا بما وثّقه الدّكتور رشيد بنحدو في مقدمة كتاب "جمالية التلقي.. من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي" للمنظّر والنّاقد الألماني المعاصر "هانس روبرت ياوس"، إذ يذكر أنْ سبق لـ"ياوس" زيارة مدينة فاس المغربية في عام 1994، وألقى محاضرتين باللغة الفرنسية حول تصوّره للتّأويلية الأدبية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية (ظهر المهراز)، ويسرد: "وبعد أن علم أنّني أدرس نظريّته حول التّلقي في مستوى دبلوم الدّراسات العليا المعمّقة، أعرب لي عن رغبته في أن أترجم جانباً من فكره حتّى يتمكّن الباحثون المغاربة والعرب عموماً من تداول "جمالية التلقي" بالعربية، وكنت قد قدّمت له لمحةً إجمالية عن حال النّقد الأدبي في المغرب خاصةً وفي العالم العربي عامةً، كانت عبارة عن قراءة شخصيّة لمناهج مقاربة الأدب عندنا، مازلت مقتنعاً بنتائجها، وهي أنّ دراسة الأدب ومعالجة قضاياه ترتهنان بعدد من التّصوّرات التي قد لا تخلو من سلبيات، فما يزال التّأريخ للأدب المغربي والعربي تتحكم فيه روح الصنافة الوضعية المحتفية بالظّواهر العامّة والمشتركة على حساب السّمات الخاصّة التي هي ما ينبغي الاهتمام فيه، لأنّها ما يصنع أدبية النصوص.. وما عدا استثناءات قليلة فإنّ النّقد في حدّ ذاته ظلّ يكتسي عندنا طابع الهواية الموسمية طالما أنّ معظم ممارسيه هم نقّاد أيام الأحد، ولئن كانت لهذا النّقد قيمة إيجابية تتمثّل في سدّ نوع من الفراغ النّاتج عن غياب نقد صحفيّ متخصصٍ في تقنيات الكتب وإغراء القرّاء باقتنائها وقراءتها، فإنّه مع ذلك يعاني سلبياتٍ أقلّها الأحكام الانطباعية وعدم الإطراد في المواكبة والحسابات الشّللية المقيدة"، أمّا الاستثناءات التي يشير إليها بنحدو فتتجلّى في اضطلاع بعض الباحثين الجامعيين بمهمّة نقد الكتب من زوايا نظر محددة تمليها مناهج مقاربة مضبوطة، وإن كان يغلب على دراسات بعضهم ـ كما يقول ـ التّطبيق الحَرْفي والحِرَفي لشبكات قرائيّة جاهزة تتحوّل معها النّصوص المدروسة إلى أطياف أو هياكل سُلبت منها الحياة لفرط ما جُرّبت على أجسادها ـ سريعة التّأثّر ـ المناهج والنّظريات الأجنبية، وهذا تماماً ما يغلب على معظم حفلات توقيع الكتب التي حضرتها، وعلى كثير من القراءات والمقالات النّقدية التي تنشر في بعض الصّحافة العربية والتي يغلب عليها طابع المحاباة، بل والمبالغة في تمجيد الكاتب على حساب مضمون الكتاب، لدرجة يجعلنا كاتب المقال ـ سواء أكان صحفياً أم أديباً يكتب في الصّحافةـ نعتقد بأنّ مؤلّفَ الكتاب منزّهٌ عن الخطأ حتّى المطبعي منه، والأنكى من ذلك مقارنته بكتّاب وأدباء مخضرمين يحتاج المرء سنوات كثيرة ليصل إلى ما بلغوه من ثقافة وإدراكٍ ووعي بأهمية الكلمة وجماليتها وخطورتها أيضاً، ولن ننسى أنّ البعض يتلقّف المنتوج الأدبي ويحكم عليه من باب تعارضه مع أشكال فنيّة أخرى، وهنا نعود إلى قول سقراط إنّ بعض النّقاد ينقدون وفقاً لمخزونهم فيتّخذون مواقفهم تبعاً له.
طبعاً ليس من الخطأ أن يستند النّاقد على مخزونه الثّقافي التّراكمي، لكن الخطأ هو في عدم استناده إلى أخلاقيات النّقد والأدب، يقول الكاتب الألماني "فولفغانغ إيزر" في كتابه "فعل القراءة.. نظرية جمالية التّجاوب في الأدب" ـ ترجمه إلى العربية الدّكتور حميد لحمداني والدّكتور الجلالي الكدية: "إنّ النّظريّة الجماليّة هي منطقيّاً محاولة فاشلة لتعريف ما لا يمكن تعريفه، ولإقرار الخصائص الضّرورية والكافية لما ليس له أي خصائص ضرورية وكافية ولتصوّر مفهوم للفنّ كشيء مغلق، في الوقت الذي يكون استعماله الحقيقي يبيّن ويتطلب انفتاحه.. ومع ذلك ففي الممارسة غالباً ما يفشل نقّاد الأدب في أن يأخذوا بالحسبان مثل هذا التّبصّر، ويستمرون في توقهم لتعريف ما لا يمكن تعريفه، وعلى سبيل المثال عندما نقول إنّ عملاً أدبيّاً ما جيّد أو رديء، فإنّنا نصدر حكم قيمة، لكن عندما يطلب منّا تقييم الدّليل على ذلك الحكم، نلجأ إلى معايير ليست أحكام قيمة في حدّ ذاتها، بل تعيّن فقط سمات العمل الذي يكون قيد المناقشة، ويمكن مقارنة هذه السّمات بسمات أعمال أخرى، لكن عندما نميّز بينها، لا نفهم شيئاً سوى توسيع مجال معاييرنا وهو ما لا يكون حكم قيمة على الرّغم من كلّ شيء، ولا يمكن أن تكون المقارنات والاختلافات معادلاً لحكم القيمة".
لكن، كيف يستقبل بعض الأدباء النّقد المكتوب في أعمالهم؟ سؤال أستطيع الإجابة عليه من خلال تجربتي الشّخصية، وأذكر موقفين مختلفين، الأوّل: جمعتني صداقة أحترمها وأقدّرها بشاعرة لم أكن أعرفها قبل أن أكتب نقداً بمجموعتها الصّادرة حديثاً، والثّاني: على عكس الأوّل، خلاف ما بعده خلاف.
ختاماً لابدّ من التّنويه بنقدٍ موضوعيٍّ ومبنيّ على تفكيرٍ منطقيّ ومنهجيّ يقدّمه شخص يقول عن نفسه: "أنا لست ناقداً، لكنّي مهتمّ بالشّأن الثّقافي"، أكثر من آخر يقول: "لا نقّاد من بعدي".