الأربعاء 2016-01-13 23:53:56 ســينما
فيلم (العاشق)..الماضـــــي يقتــــــص منـــا..!

لاندرك مدى تاثير فيلم (العاشق) لعبد اللطيف عبد الحميد، الا بعد خروجنا من سينما الكندي، الى شوارع دمشق، لنراها معتمة، ضيقة، غدارة.. على غير العادة.. شيء ما ينقصها، وكأنها تتلقفنا بتبرم وضجر.. بحيادية من لايحمي ولايهتم بمن امضوا سنوات عمرهم يقطعون شوارعها غارقين في عوالمهم، متمسكين بها.. غير آبهين بواقع يزداد مقتا.. !

وأنت تقترب من تلك الحجارة المرصوفة بغرابة بمحاذاة المتحف الوطني، على يمينك النهر الذي فقد عروقه، تخال للحظة أنك لاتطأ الحجارة، بل هي التي تمشي فوق صدرك، تخاف منها ومن سوادها، وانحناءاتها العشوائية، مبتعدا مخافة ان تقفز فجأة وتصفعك احداها..‏

شوارع المدن الحيادية تلك.. وامكنتها المعتمة الضيقة.. قد يمضي زمن قبل ان نشعر بها، لولا بطل الفيلم مراد، وحضوره المتردد بين المدينة والريف.. وقسوة الصفعات التي صفعتنا معه..‏

منذ اللقطة الاولى للفيلم نحن مع حضور طاغ لرومانسية راقدة واقعيا، مراد (عبد المنعم عمايري) يرمي بحبات الكرز لجارته وحبيبته ريما(ديمة قندلفت)، يدخل الى غرفته الضيقة، مع تعالي صوت الموسيقا، لننتقل بعدها مباشرة الى مراد ابن الضيعة يسير في تلك الطرقات الواسعة.. التي تشعر فيها الروح بتردد صداها حتى لو كان كل ما حولها يخنق واقعها..!‏

اعتمد الفيلم على مقاربات ومقارنات بلغة سينمائية شاعرية لينتقل.. بين الحاضر والماضي، بين الضيعة والمدينة، القسوة والحنان...مع ملامح من سيرة المخرج نفسه، وهي تبدو كتيمة في أفلامه بالكاد تغيب عن احدها..‏

الواقع السياسي الثابت، مع شعاراته الجوفاء، وكيف ينعكس هذا الفراغ واللامعنى على حياتنا، ليزيد لاجدواها، محور رئيسي في الفيلم اتانا في مشاهده المختلفة، بلغة مبسطة، بدأت باكرا منذ بدء وعي مراد وعدم تفاعله مع هذه المعطيات حين نرى مدير المدرسة يصفعه لعدم ترديد الشعار، ويعاقبه بطريقة مذلة بترديده امام الجميع لمدة ساعة كاملة كانت كافية لتجعله يبتعد عن انماط الفعل المتحزب، ويستغل اي فرصة لانتقاده، كما فعل اثناء احدى اللقاءات التلفزيونية، ليفاجأ بمدير المدرسة ذاته وقد أصبح في احد مراكز القرار المهمة، وهو في اوج شيخوخته.. يستدعيه ويهدده..‏

الصفعات المتتالية لمراد في الفيلم(الأب، المدير، الاخ)، وكأنها تجعله يعتادها، يتلقاها بخنوع، هكذا تبدو صفعات حبيبته حين اراد تقبيلها، لينة مقارنة بكم القسوة الذي تربى عليها واعتادها.. وخلقت منه شخصية تحاول أن تشفي نفسها عبر اخراج فيلمها الاول.‏

اخراج مراد لفيلمه الاول يبدو ذريعة للعودة الى زمن السبعينات وأوهامه القومية وعصا التسلط، عبر ربط الماضي بالحاضر، والعام بالخاص لنعود مع مراد الى طفولته ومراهقته..، من خلال مونتاج يقوم به لفيلمه الحالي الذي ينجزه، وتداخل حياته الواقعية والماضية بشكل محكم، ينتشلنا في لحظة من الان، ويعيدنا الى ماض، نفتقد براءته ونكهة مفرداته الاولى، متمنين لو انها اتسمت بوعي وروح حقيقية أخرى لربما انتشلتنا من كل هذا الخراب الاني، الذي لايزال البعض يتمسك به، معتقداً ان الزمن ثابت ولن يتغير.. !‏

الكوميديا التي اختزنها الفيلم تقاوم القهر والقمع بهجاء تهكمي، ساخر، يضفي متعة خاصة، هكذا يكتشف مدير المدرسة صوت أبي نزار والد مراد (عبد اللطيف عبد الحميد) الهادر، يقترح عليه ترديد الشعار من منزله ليرد الأساتذة والطلاب وراءه، فينطلق صوت أبو نزار يوميا الساعة الثامنة صباحا (أمة عربية واحدة) فيردد الطلاب وهم بعيدون عنه «ذات رسالة خالدة.. أهدافنا وحدة، حرية، اشتراكية»‏

الى جانب صورة الاب ابي نزار، القاسي تارة، وبالغ الحنان تارة اخرى، نرى صورا اخرى لسلطة ابوية شديدة القسوة والتسلط يجسدها والدا الفتاة الاولى التي أحبها مراد، هدى، ووالد حبيبته الاخيرة(ريما)تؤدي دورها ديمة قندلفت.‏

وما بين سطوة الاب وتسلطه المخيف، وقسوة اعرافنا وتقاليدنا يضيع حبه الاول، ويترك ندبا غائرة في قلبه، لايمكن لشيء أن يشفيه..‏

حكاية ريما ومراد، هي الحامل الرئيسي للفيلم، منها تتفرع كل الاحداث، حتى تلك المشاهد التي بدت زائدة احيانا كمشهد الرجل السكير الذي يصرخ في منتصف الليل، او مشهد صفع المخرج من قبل احد المارة، في كلا المشهدين نرى مراد، مستكينا، مستسلما، تظهر ردات فعل الشخصية التي يؤديها عبد المنعم عمايري، بمزيج من الرومانسية والهشاشة، التي يتداخل معها عمق انساني يضفي أجواءمميزة على تلك اللحظات التي يجتمع فيها مع الآخرين..‏

الحب الذي يكاد يضيع للمرة الثانية من يد مراد، يجعلنا كمشاهدين نتوه معه، هل سيتمكن من اختراق كل هذه الحجب المجتمعية، كل هذا الخراب السياسي، والفكري، والمجتمعي الذي يسيرنا نحو الهاوية، مبعدا فكرة العشق، ليس كفكرة أزلية بين الرجل والمرأة، بل بين مختلف الكائنات البشرية، التي حين تبتعد عنه، تنسج هلاكها بيدها..‏

لذلك لم يكن مفاجئا أن ينهي المخرج فيلمه باجتماع العاشقين بعد أن دافعت ريما عن حبها في وجه كل التقاليد وهربت لتتزوج بأمان في قريته، بعد أن استعان مراد بصديق طفولته الوفي عمر زكريا يؤدي الدور قيس الشيخ نجيب، الفيلم يختم بمشهد رومانسي، سرير على سطح المنزل يقبع فيه الحبيبان، تعود ذاكرة مراد القسرية الى الوراء ليتذكر حبيبته الاولى، يتزامن ذلك مع ترديد والده بصوت ضعيف للشعار الذي اعتاد ترديده يوميا.. لينتهي الفيلم بين دفق الحب.. ووهم شعارات الماضي، مشهد يختصر الكلمات...‏

كاميرا عبد اللطيف عبد الحميد تابعت في فيلم العاشق بحساسية مخرج متمكن، ماكان قد بدأته في أفلام روائية عشرة حتى الان.. تأريخ لحظات بشر متناقضين افتقدوا في لحظة لأمانهم وحلمهم.. قيدوا واقتيدوا.. ومع ذلك يرفضون شتى انواع البشاعة، بسخرية تضفي على أفلام عبد الحميد، نكهتها المختلفة.‏ 

جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024