الخميس 2012-03-22 12:02:28 أدبيات
دمٌ في السماء .. دمٌ في الطريق
حسن الهلالي سلامة: كاتب وشاعر وإعلامي فلسطيني
كم كنتُ حزيناً ،
كم خجلتُ ،
حين نظرتُ الشجرة العارية من ثوبها الأخضر ..
فقلت سلاما أيتها الأم
حارسة الرصيف
والعمر الذي يزرع عند الصباحات
أيامه اللاهثة ..
كم حزنتُ ،
كم انتابني ذاك الخشوع ،
حين قالت الشجرة
هذا هو الله ،
أراه
كما أراك ..
نظرتُ إلى مدى بصيرتها في السماء،
فرأيتُ كفيّها النـازفين،
وما رأيت العصافير ،
ولا بياض الغيوم
وما سمعت صدى الصوت الذي
مات في رائحة الموت،
بعد أن حطت خرائبه
على ربيع الحـياة ..

**
قـال الـراوي : سقـط مني الكلام سهواً ، وتلعثم لساني ، وتـذكرتُ صوت أمي قبـل موتها، حين قـالت حكمة: يا بني ، بعـد كل أزمة خراب أو حرب، فصدقتها ،لأنها كـانت ترى ما لا أرى، وحين رحلتْ، قلت لنفسي : ماذا تبقى لنا على عروش التراب سوى الغبـار واليـباب. وقلت لربي العظيم أحمدك، لأنني ما كنت لأحتمل أسى أمي بالذي نرى..
**
وحين ، صار الدخان هو الرئة الوحيدة ،
قام كافر يوزع الجمر وأشواكه السوداء على المارة ..
وكان يهذي بنبوءة ابن سبأ حين أراد له رباً مختلفاً
يطلب منه مصحفاً مختلفاً ، على قياس كفره ..
وصار يصدح جهاراً للذين اصطفوا وصفقوا له ..
وعبأوا صرته بالدنانير،
فانحنى
وتلوى
وتمطى ،
وكاد يأكلني لولا رحمة الرحمن ،
فاشعل نيرانه في الياسمين
وأعشاش الحساسين..
ونحر القرابين لمعبده ..
..
قلت سلاماً أيها الرب العظيم
سلاماً أيها الرب الرحيم ،
من أين يا رب جاء كل هؤلاء الشياطين
بغواية الكفر ،
وممرات النكوص عن الخليقة ..؟!
وأنا الذي ما كنت
باسطاً يدي لأقـتلهم ..؟

**
وقال الراوي : قلتُ في لحظة شـائكة لنفسي: الحمد لله، لم تسألني أمي عن هـؤلاء الذين وزعوا أرواحـهم على تلك الأرصفة، ولونـوا السماء بالأحمـر القاني ، فأنا والله لا أحتـمل أسى أمي ولا حـزنها، فأنـا أعـرفـها تماماً حين تحزن ، تنام على جنبها الأيمن، ولا تأكل، وتعبث بأي شيء حـولها ، ثم تـزيح حزنها إلى سؤال: يـُمه ، ما أخبار أبو العـلوج (تعني الصحاف) فـذهلت حين علمت أنهـا تتـابع الوجـع العراقي ، وأخبارالغـزاة وأنها بكت فجـر ذاك العيد، فشعـرتُ بانكسار شديد، وحمدت الله، فقـد رحلت ولم تسألني عن الربيع العربي، ولو فعلت لظنت أنني أهزأ بها ، وأنني - معاذ الله - على وشك العقوق .!

**
الساعة واقفة عند عقربها ،
والصوت فوق الصوت ،
والناس الطيبون يتخاطرون مع وقتهم
وهواجسهم ، وخطواتهم .
أنا أعلم تماماً أن العابرين
يلقون التحية على الأرصفة
والجدران
والياسمين الفائض عن حاجة النوافذ
وأعلم يقيناً أن النسائم تنقل الرد
عطراً ، وعبقاً ، ومحبة ..
سألت نفسي :
كيف تنتصر الشياطين على ذاتها ،
وكيف تأتيها الهواجس البشرية
فيكون عصيان الرب ،
وتبرق المعصية
ويطل الإنتقام برأسين
أسودين
بعيون محملقة في الفراغ ،
فتفرد سواد عباءتها
وموتها ،
وتوزع لكل عابر
رطلين من حريق ،
وقارورة موت لكل طفل ،
وللبالغين عناقيد الديناميت..
فيصمت الشارع ،
ويصمت المارة ،
ويصمت الأطفال ،
فيختلط الدم والنار،
وتتعرى الشجرة من أخضرها ،
من هول الفجيعة ،
فتمد روحها للسماء ،
تخاطب الإله الخالق ،
في انتظار غيمة ، ليست عابرة
بل ، محملة بالبرق والرعد
في مخاض المطر ..
..

**
وقال: قالت أمي : لعنة الله على الظـالمين . فأنصت لعسعسة الليل ، حين النجوم كأنها
في كـدر ، وكـأن الأرصفة ثـكلى حين غـابت خطوات المارة ، فما كان مني ، قال ، سوى
البحث في أشيائي كلها ، عن زاويـة للحزن ، فمـا وجدت إلا روحي أعتصرها مثل قطنة
مبللة ، لكنها كانت تنز ّ دماً ..
فنمت عليها ..
..


18 / 3 / 2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024