السبت 2007-05-12 19:37:55 ثقافة ومنوعات
في النهاية.. أحد ما يتحمل المسؤولية
إنسان آخر.. طبيب مختلف

 

سيريانديز – حسن سلوم

.. كان شعوري طبيعياً في المرة الأولى التي دخلت فيها عيادة طبيب عيون حينها كنت في سن السابعة عشرة ،عاينني الطبيب ثم بدى مستاء وهو يتساءل عن عقول وعيون أساتذتي في المدرسة وفي أي مقعد أجلس وهل أنا مقنّع وعن أهلي والمحيطين بي.. كان تأنيباً استرسالياً، فهمت أني تأخرت عن المعاينة الطبية لعيني مما أوحى لي أني امتلكت عاهة دائمة.

ومن حينها بدأ الصراع على المستوى النفسي فمنذ اللحظة التي نظرت نفسي بالمرآة بعد وصولي إلى البيت بدأت التحديق والتركيز بالعينين لألحظ جحوظاً باليمنى وانكساراً عن المسار، وتتالت الأيام وتكثف التحديق وكبر الجحوظ وازداد الإنحراف عن المسار المتوازي للعينين لينتقل الصراع إلى المستوى العضوي والمعاناة من التطورات.

واليوم أنا في الأربعين  وعمر تجربتي في التحديق والصراعات ثلاث وعشرون زرت فيها ما لايقل عن ثلاث عيادات أطباء عيون سنوياً أي ما لايقل عن خمسة وسبعون طبيباً في رحلة مريرة طويلة  والذي زاد الأمر سوءاً أن الأطباء اجتمعوا على رأي واحد هو أنه لا مناص، لا سبيل، لا حل. والذي تبين فيما بعد أن هذا الرأي بحد ذاته شكل مفارقة على أرضية اسقاطاته الإنسانية والمهنية.

في السنوات الأخيرة تآكلت تفاصيل الصورة المنعكسة في دماغي التي ترسلها عيني اليمنى وحلّ محلها بقعة ضبابية خالية من أية تفاصيل ترافق ذلك وانعكاس صورة متكاملة التفاصيل ترسلها العين اليسرى مما كرّس ازدواجية متباينة في الرؤيا كانت السبب في عدم التركيز والضيق والصداع الدائم، والاهتمام التلقائي ليدي اليمنى بمداعبة تلك العين، تلك الحركة التي كثيراً ما تبديني في موقف ما كطفل يتدلل للوصول إلى مطالبه.. كانت حياة بائسة مشتتة خاوية القيم.

اهتمام بأمر وحيد لا يمكن الاستغناء عنه ولا يمكن التخلص من إرهاصاته ومناوشته المستمرة حسب آراء جميع الأطباء المعاينين بدا وكأن القدر ماضٍ في إقراره مؤكداً وجوب الرؤيا من زاوية واحدة وما زالت لا أملك الوسيلة لإبداء الرأي بأن مسألة الزاوية الواحدة هي مسألة فكرية وليست نظرية لكن القدر يناوشني من وراء حجاب.

 ساقتني الصدفة في أحد الأيام التي اختارها صديقي القدر إلى طبيب عيون عندما طلب مني أحد أصدقائي اصطحاب والده لإجراء معاينة كشفية بعد عملية جراحية وبعد الإنتهاء من المعاينة كان فضولي حاضراً لأطلب من الطبيب إجراء معاينة لي وبعد أن أوجزت معاناتي رأيت في وجهه سماحة رضى وابتسامة ثقة وتعابير تشي بكثير من النبل.

أجلسني وراء أحد الأجهزة العادية المتوفرة لدى كل عيادات أطباء العيون التي يسند فيها الذقن في مقر والجبين إلى حاجز وبدأ يجري مسحاً عبر المنظار المثبت بإحكام على ذلك الجهاز

كان شعوري حينها مخضّباً بانعكاسات تعابير وجهه النبيل لذلك بدأ إيقاع ضربات قلبي بالتسارع عله القدر وضعني في المكان الذي سأسمع فيه عن إمكانية حل لمعضلة غدت مستحيلة

انتهت المعاينة بعد دقيقتين ثم وقف واصطحبني إلى إحدى اللوحات المعلقة على الجدار والتي تبين رسماً جانبياً توضيحياً لأقسام العين وباشر بشرح المشكلة في بضع جمل:

-         بداية تعتيم بالعدسة المغلقة للحدقة الفاصلة بين الجسم الزجاجي والقرنية

-         ربما تمزق الأربطة الرابطة للحافظة الحاوية للعدسة

-         ربما يوجد تسرب لجزء من الجسم الزجاجي عبر الحدقة إلى القرنية نتيجة انزياح الحافظة بفعل تمزق الأربطة

-    والحل إجراء عمل جراحي سماه فيما بعد بالعمل النوعي فتعود عينك للعمل بصورة طبيعية.

 ألقى بدلوه ببساطة وتلقيت دلوه كأنه وحي منزل وهذا ما حصل حيث أخضعت نفسي لإجراء العملية بعد إجراء كل الفحوصات اللازمة وإحضار العدسة البديلة. كان النجاح السهل والمبهر مسكناً لآلامي ومبعداً إياي عن شفير الهاوية.

في إحدى المعاينات الكشفية بعد العملية سألت الطبيب عما لو أجريت هذا العمل في الوقت المناسب فيما مضى كم كنت سأتلافى الكثير من المشاكل التي حصلت، ولماذا لم ينبر أحد هؤلاء الأطباء لهذا العمل أومأ برأسه بحركة استهجان كبيرة وقال:

حقيقة إني فكرت بهذه المسألة وأجزم القول أن كل من عاينك عرف التشخيص لكني أعتقد أنهم ابتعدوا حتى لا يتحملوا مسؤولية ما عملناه، وحقيقة أن ذلك صدمني إذ استذكرت الكثير من الصور التي يعلمها الجميع عن حالات لأشخاص دخلوا المشفى لإجراء كشف دوري وخرجوا محملين بنعوشهم وما من أحد تحمل المسؤولية إلا المتوفى، سمع مني ذلك ثم قال: المسؤولية أمام الفشل وبالتالي التعرض لخطر النيل من السمعة.

إذاً هي مهنة مجردة وتخضع لمنطق الحرفة التجاري لدى الكثير من الأطباء..ياللأسف.. وماذا عنك يادكتور: أعتقد أنه يجب على أحد ما أن يتحمل المسؤولية في النهاية

سأكتفي بما سردت إذ أرى نفسي قابضاَ على أهم جملة محملة بالمغزى الحقيقي لتلك القصة ولمهنة الطبيب التي يجب أن تتضمن الحس الإنساني والذي لابد لهذين المسارين أن يبقيا شديدي التلاصق لتبقى هذه المهنة في أعلى قمم المهن الأخرى، وحتى نقيس نجاح الطبيب من خلال أداء دوره وتحمل مسؤولياته وليس من خلال مظهر عيادته ومكانها وسيارته وأناقته، وكل ذلك سيكون مغموساً بزفرات وحسرات المريض وأهله إن لم يكن الطبيب إنساناً. وهنا اسمحوا لي أن أدعو

ربات القهر و الضغط والسجن

لتدخل محرابي..

ولتركب موجتي..

ولتبحر معي إلى جزيرة الزهر..

نضيء فيها الشموع و نعزف الموسيقا..

لنجعلها منارة محبة لكل البشرية لعلها تقلل من خوائها وتقترب من إنسانيتها

ففيها الدواء الشافي ومنصة التسامي..

إنها جزيرة سامي الزهر طبيب عيون من بلدي اصطفاه علمه ووجله ليكون في مرتبة بعيدة المنال عن كثير من الأشخاص الذين تقلدوا صفة الطبيب زيفاً وتزلفاً .

سامي الزهر إنسان آخر وطبيب مختلف ..

نرفع القبعات ونحني الهامات احتراماً وتبجيلاً ولنشر بالبنان والمحبة لكل طبيب إنسان وبالصوت الجهوري والغضب الساطع لكل طبيب تاجر..

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024