لا جديد تحت شمس الاستثمار، مرة أخرى تهاوت السوق المالية، وأخشى أنه لم يعد أمام المستثمر البسيط سوى إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى مما يكون قد تبقى – (إن تبقى له شيء ذا قيمة) من استثماراته ويغادر السوق المالية السعودية نهائيا، أو (في حال قبلنا أن هناك خيارا آخر) البقاء في لعبة الأرجوحة التي تهوي بمن فيها منذ أربع سنوات أكثر مما تصعد حتى أصابنا الدوار وملت أعين الذين ينظرون من خارج اللعبة. لا فرق في أسهم الشركات ولا تتعب نفسك وتختار فكلها في قلب اللعبة سواء ''سابك'' أو ''رابغ''، ''الإنماء'' أو ''الراجحي'' أو حتى أوراق شركات التامين. مع الأسف هذا هي حال سوق الأسهم السعودية. حتى أصبحت الكتابة عنها بلا معنى يمكن إضافته, ولن أستغرب إذا لم أجد لمقالي هذا قراء فمن يريد أن يتابع ويقرأ. أتذكر هنا رسالة جاءتني عن آخر مقال كتبته عن هذه السوق تقول ''الضرب في الميت حرام''.
تهاوت السوق مرة أخرى وستتهاوى مرات ومرات طالما لم نعرف - ولن أقول لا نريد أن نعرف - السبب ونتعامل معه بجدية وصرامة. سابك بلا أوامر شراء ولا يهم - كما هي عادة الأرجوحة - مكرر الأرباح ولا يهم الأربعة مليارات ولا يهم تعافي الأسعار العالمية في تلك الصناعات، واقع السوق عروض بلا شراء. تهاوت السوق مرة أخرى وستتهاوى مرات طالما لم نزل خاضعين لمخاوفنا التي زرعتها فقاعة 2006م، ولم نزل نتعامل مع السوق بعقلية تلك الأيام. ومع كل الاحترام للرأي القائل بأن السوق المالية السعودية لم تزل في حاجة إلى تنظيم فإنني أقول بالتنظيم عند الحاجة إليه وفي وقته الصحيح. القيود القانونية الكثيرة تحد من قدرات السوق وتعوق مزاياها الاستثمارية وعوائدها وإذا أضفت لذلك حال الأسواق العالمية التي تتأرجح من حولنا وأسعار الذهب من قمة إلى قمة بينما الصناديق الاستثمارية من هاوية إلى هاوية فمن يريد السوق المالية اليوم ومن يريد خسائرها وعن أي عمق نتحدث. نعم لعمق السوق ولكن إذا كان هناك فائض بل قل فيضان من الأموال والمستثمرين. كيف نتحدث عن العمق بينما الأموال المتاحة لنا أصبحت في حضيض وادي السوق فلماذا ولمن نزيد من عمقه الآن وما هي الفائدة؟ أخشى إن زدنا عمقه اليوم لن نجد وسيلة لنبحر فيه وكل ما سيبقى لنا مجرد وادي سحيق لا نجد فيه قطرة.
الأمر ليس تنظيرا، ماذا أريد من سوق الأسهم إن لم تحقق لي العوائد ماذا أريد منها إذا لم تحافظ على مدخراتي على الأقل؟ لماذا خلقت الأسواق المالية؟ لم تخلق لمكافأة رجال الأعمال الذين ملوا من إدارة شركاتهم لتأتي السوق وتشتري منهم ثلثها بسعر الشركة كلها أو بسعر مثليها، لم تخلق السوق المالية لنترقب أرباح الشركات و ننتظر ماذا سيتصدق مجلس الإدارة على المساهمين وكأنهم شحاذين في سوق سياحية يرمي عليهم البعض ويزدريهم البعض ويتجاهلهم البعض الأخر. خلقت الأسواق المالية للمستثمرين الراغبين في تنمية رؤوس أموالهم مع تخفيض مخاطر الاستثمار ومن أجل أولئك الذين يرغبون الحصول على عوائد على مدخراتهم ولا يجدون الوقت الكافي لاستثمارها بأنفسهم.. خلقت الأسواق من أجل بناء الشركات العملاقة ذات النفع العام والعمر الاقتصادي الطويل. بلا أسواق للمال من سيغامر بالاستثمار فيها وفي الشركات النوعية الأخرى التي تحتاج التي رؤوس أموال ضخمة لا يستطيع شخص أو حتى عدة أشخاص المغامرة فيها.
للعودة بالسوق إلى التوازن يجب أن ننظر ونعالج الحاضر وليس الماضي. القضية لم تعد قضية تصحيح فقاعة 2006 بل رعب حقيقي. رعب من شبح التعلق في السوق رعب من اتخاذ قرارات الاستثمار طويل الأجل أو حتى متوسطه طالما أن الأسهم تتهاوى سنويا وهي من سيئ إلى أسوأ. يجب أن تتخذ الهيئة تلك القرارات الشجاعة وكما قررت إيقاف ارتفاع السوق عام 2006 بصعقه يجب عليها أن تصعقه مرة أخرى ولو بشكل مؤقت لإيقاف هذا الهدر في أموال الناس. لماذا - وكما قررنا معاقبة السوق بطريقة 5 في المائة سابقا والتذبذب بريال - لا نتخذ قرارات تحفيزية مثل 5 في المائة للهبوط و15 في المائة للارتفاع ونعدل التذبذب مؤقتا بشكل تحفيزي حتى تعود الثقة وتعود الأموال للسوق مع اتخاذ تدابير أكثر صرامة مثل المقاصة بفارق يوم واحد (1+t)؟ لماذا نصر على التعامل بطريقة المقاصة الفورية (t0) في زمن الانهيارات رغم الخوف المسيطر على فكر المستثمرين مهما حققت الشركات من أرباح ومهما وصلت متانة السوق السعودية؟
لماذا لم نتخذ حتى الآن قرارا بخصوص صناع السوق رغم كل الفرص المتاحة ورغم كل المآسي التي مرت بالسوق؟ لماذا لا نسعى لخلق شركة استثمارية يساهم فيها - جبرا - جميع الصناديق الاستثمارية سواء حكومية أو بنوك أو شركات أو غيرها وكذلك مساهمة شركة السوق المالية (تداول) بحيث تدار هذه الشركة بشكل مستقل تحت إشراف السوق المالية نفسها وتقوم بعمل صانع السوق وتمهد لإنشاء صناع آخرين في عدد من القطاعات. لماذا لا نلزم الشركات العملاقة في الصناعة الواحدة بخلق مثل هذه الشركة الاستثمارية فيما بينها لحماية أسهمها من مثل هذه الفوضى العارمة؟ لماذا لا نسمح للشركات بشراء أسهمها وقد طورنا المواد المنظمة لاستثماراتها في سوق الأسهم؟ لماذا لم نعمل حتى الآن على فصل السوق المالية السعودية إلى سوقين للشركات المساهمة. سوق ذات شروط صارمة في مجال الإفصاح والأرباح والصناع والصناديق الاستثمارية العاملة وتكون سوق للمتحفظين والراغبين في تنمية أموالهم وليس إحراقها. وسوق أخرى أقل صرامة للشركات التي لم تكمل مثل هذه العناصر تكون سوقا مفتوحة للمغامرين.
يجب العودة بالثقة والحفاظ على أموال الناس ولو تنازلنا عن النظريات الاقتصادية وهو ما قامت به دول العالم التي تنازلت عن كبريائها في سبيل الصحة الاقتصادية العامة بل دعمت وأقرضت و أوقفت الكثير من المعايير و القواعد في سبيل عودة الروح للأسواق. وكما هي حال أقسام الطوارئ في المستشفيات يجب التركيز على بقاء المصاب حيا أولا، ثم النظر في تنظيم علاجه. واليوم يجب أن نعمل لإبقاء السوق المالية السعودية حية قبل أن نستمر في تنظيمها.
الاقتصادية السعودية/ د.محمد آل عباس
