|
|
|
|
دمشق .. المدينة الأنثى ..؟ |
حسن الهلالي سلامة : كاتب وشاعر وإعلامي
أصعب القول ، أن تعجز عن قول الذي تريد ، عن الذي تحب ..!! وهذا ما يحدث لي بالضبط ، حين يتلعثم اللسان في تهجي الأسماء الكامنة في القلب .. هنا أتذكر كلمات لنزار قباني ، يرحمه الله : ( لأنك أقوى من الكلام .. أصمتُّ والسلام )
هذه هي دمشق ، المدينة الأنثى ، ولا أعرف لماذا تتصف المدن العظيمة بالأنوثة ، وقد يكون بُناتـُها كلهم من الذكور فحسب ..؟! المدينة الأنثى لها عطر ، المدينة الأنثى تسهر عند منتصف الشهر القمري لتسرق نور البدر مكتملاً .. وتنام على سرير الندى اللا صف على وريقات الصفصاف الفضية .. المدينة الأنثى ، دمشق ، لها غوطتان ، ورئتان ، ونهدان ، ونهر ، وحارس لا ينام على رأس قاسيون .. المدينة الأنثى ، ينام أهلوها جميعاً ، فتظل عيونها ساهرة كأم حانية ، تجول في مرمى نظرها أقدام قلقة ، وسيارات صفراء تلتقط الذين فاتهم نعاس القطار .. المدينة الأنثى ، دمشق ، حين دخلتها أول مرة ، فاجأني جمالها .. وعيون الصبايا الناعسات الزُرق والخُضر .. والشهل .. وكنتُ قبل ذلك لا أميز الألوان رغم تداولي الرسم بالألوان .. منذ تلك اللحظة ، في المدينة الأنثى الرائعة الولادة الصابرة ، التي تبث ياسمينها مع خطوط تاريخها لكل العابرين والمقيمين .. منذ تلك اللحظة ، تعلمت الصمت والدهشة ..! ما ساعدتني الكلمات أبداً لأقول وصفاً عن تلك الصامتة .! ورغم وقوفي عند معالمها ، عند نهرها الذي كان يغسل الأرصفة غزارة ونقاءً ومحبة ، وعند مسجدها الأموي وفيه من أنبياء ما زالوا يتحدثون ، فترى أصواتهم ترسو على الجدران المنقوشة الندية ، فتنهمر دمعة ، كدمعة زكريا قبل أن يقسموه بمنشار إلى نبيين (!) أو كدمعة يحيى ، حين كان رأسه يرنو بعينين براقتين إلى جسده المفصول بين دمي ودمي .. ورغم وقوفي عند غوطتها ، وحدائقها المسيجة بالسرو والكبرياء ، وعند أسواقها العتيقة ، وعند سقفها السماوي وطينها الذي يتجدد فيه العبق .. ورغم وقوفي عند ناسها ، وكناس غزلانها ، وعرائن كواسرها ، وأعشاش طيورها .. ورغم وقوفي عند بواديها وحواضرها .. ورغم وقوفي عندها ؛ فيها .. لها .. بها ، رغم ذلك كله ، لم أستطع أن أقول شيئاً عنها .. وأبقيتها سراً ، نبش الوقت بعضه ، وأبقى لي متعة الصمت .. دمشق ، المدينة الأنثى ، لي فيها ألف حبيبة ، ألف صديق ، ألف حكاية ، حتى البيت الذي كنتُ أستأجره بسبعين ليرة (!) في الشهر ، أيام الدراسة الجامعية ، تحول مع حضارتها .! وحين أزالوه ، لم أحزن أبداً ، لأن بيتي الذي كنتُ أستأجره صار نفقاً عند تقاطع شارعي / بغداد والثورة ..! / وصار الناس كلهم يعبرون من بيتي الذي كنتُ استأجره ..! وحين أزور تلك المدينة الأنثى ، أروح إلى هناك ، أعبر من بيتي الذي كنتُ أستأجره .. يا لذاكرتي المصرّة على التكرار ..! كنتُ استأجره ، نعم .. لكنني ما كنتُ أدفع قيمة الإيجار ، لأنني أدفع ذلك بدروس في التهجي لتلك الطفلة ، ابنة مالكة البيت الذي كنتُ استأجره ..!! وحين غادرت تلك المدينة الأنثى ، قال رجل أعرفه : ابق هنا ، ها لمدينة أحسن من غيرها .. فما سمعت الكلام . وحين أعود إليها ، كنت أبحث كل مرة عن أي إصبع في يدي فلا أجد ، فأعض على روحي ..!
رغم ذلك كله ، ورغم وقوفي أمام عيونها الزرقاء والخضراء والعسلية ، حاولت أن أُبقيني في زمني ذاك .. حاولت حتى الجنون .. جنون يقودني على الخطوات ذاتها : إلى الجامعة ، الحميدية ، الأموي ، وبيت صلاح الدين (!) ومقهى الحكواتي ، ثم الصالحية ، وباب توما ، والسيدة زينب ، والمدارس التي عَـلمتُ فيها ، وبائع الكنافة في ذلك الزقاق الضيق ، ومطعم المصري بين محطة القطار وفندق سميراميس ، حيث كنت أرافق أبنائي إليه بعد ربع قرن ، فأجلس في المكان ذاته ، وأطلب الطلبات ذاتها ، آكل وحدي ، وهم يجفلون ، لا يأكلون ، فيحتار عامل المطعم ذاته ، وصاحب المطعم ذاته .. فأحكي له الحكاية من أولها ..!! رغم ذلك الصمت الذي تعلمتُ ، حاولت البوح بالأسئلة : - من رأى الياسمين حين يتنفس عند فجر دمشق ..؟ - من يعرف عن قرب أجراس السمسم عند أبواب دمشق .؟ - من يعرف تينها وزيتونها وعنبها ، وصبارها ،غير الصابرين .؟! .. ؟؟؟.. أليس الصمت أجدى من البوح سيريانديز
|
سيريانديز |
|
الإثنين 2012-02-06 | 13:17:19 |
|
|
|
|
|
|
|