الأربعاء 2010-03-31 07:48:39 موســيقا
صبـــــاح فخـــــــري ...ومـــــــاذا بعـــــــد؟

كل مبدع أو فنان بطبيعته حريص بين الحين والحين على التواصل مع جمهوره.

كما أن الجمهور في الوقت نفسه تواق إلى مشاهدة هذا المخلوق المتميز وإلى سماعه، إذ إن الإنسان كما قال الفلاسفة- حيوان اجتماعي- والفن سواء أكان أصواتاً أم أنغاماً أو صوراً أو أشكالاً أو كلمات هو أرقى سمات الإنسانية وأجمل وجوه الحياة . والكتاب والمنبر والمسرح والشاشة الكبيرة والصغيرة كلها هي الجسور الوطيدة التي تقوي التواصل المنشود وتزيده مضاء وازدهاراً.‏
في ليالي الشتاء يطيب السهر ويحلو السمر، كما يلذ للمرء المعنى في ختام يومه أن يأنس ببعض أهل الطرب حيناً والاستمتاع بابداعاتهم أحياناً أخرى .‏
ذات ليلة طويلة وباردة من شتائنا المقيم الراحل قدر لي أن أساهر الفنان صباح فخري على الشاشة الصغيرة ومن خلال لقاء مطول وحوار مفصل، أجرته معه المعدة شكران مرتجى. وكان أن طاولت تلك السهرية لكي تتناسب مع طول الليالي الشتوية وأيضاً مع برودتها الشديدة. وعلى الرغم من لعلعة صوت المعدة وحيوية نبراتها في محاولتها بث الدفء في حنايا تلك المقابلة، ظلت الأمور على حالها المعهود، حيث كان للصبر حدود، فقد ضاق صدري وعيل صبري كما يقال بسبب غلبة الضحالة والسطحية على كثير من أسئلة المعدة وأجوبة فارس الطرب، ومعظمها ينصب على شؤون المهنة وحقوق المطربين وأحوال النقابة أكثر مما يهم المواطن في مجال الغناء والموسيقا والتلحين والأداء ومدى التأثر والتأثير بين الشرق والغرب والغابر والحاضر .‏
وإذا كان من المحرج أو من العسير على السامع الصبور أن يغادر القاعة ويهجر المنصة أو المنبر مؤثراً الخروج إلى الهواء الطلق نافداً بجلده من وطأة الجلد، فالأمر الآن مختلف بحمد الله فبفضل سحر التكنولوجيا يستطيع المتلقي المستريح فوق أريكته أن ينتقل بكسبة زر أو لمسة إصبع ويطوف في رحاب الفضاء وينتقل عبر ركام الفضائيات كما يحلو له ويرضيه. وهكذا أخذت أرحل وأحلق هنا وهناك ثم أهبط وأعود من جديد إلى ما كنت أشاهده دون أن أجد فيه ما يشدني ويغريني، وكأنني على حصان طائر أو كحصان امرئ القيس مقبل مدبر معاً، إنه كلام معاد وعبارات مكررة لا طرافة فيها ولا جدة .‏
أما الفنان صباح فخري فبدا مسروراً منشرح الصدر كما نعهده في سائر مقابلاته المعتادة، حيث كانت ملامح نرجسيته وإعجابه بنفسه بارزة في قسمات وجهه ومن خلال كلماته وأجوبته عبر تلك المقابلة. والحق أن هذه الظاهرة النرجسية فيه مشروعة لديه ولدى من هم في مثل شهرته بل لدى الذين هم أقل شهرة وأدنى منزلة في عالم الطرب الشرقي والموسيقا العربية، أي إنه «بيطلعلو» كما يقال بعد أن رفد تراثنا الموسيقي بروعة غنائه وتفرد صوته وتميز أدائه.‏
ولكن للنرجسية سقفاً وللانبهار بالذات أيضاً حدود ما دامت الأنا محصورة في داخل النفس دون أن تتناول سائر النفوس بالسلب وبالانتقاص والعيب. فحين سألت المعدة ضيفها وهو السؤال الافتراضي المعهود بقولها له: (ألست نادماً على عدم سفرك إلى إيطاليا لدراسة الموسيقا في بعض المعاهد الفنية.. وهل كان من الممكن أن تصبح عندئذ إنساناً آخر غير صباح فخري الراهن..) أجاب الفنان صباح: إنه سعيد بما هو عليه الآن وبما حباه الله من شهرة ومنزلة وقدرة على الاستمرار. وهذا كلام مقبول مبدئياً ولكنه على إطلاقه فيه نظر، وهنا كما يقال مربط الفرس، فمن حق كل إنسان أن يقول كذا أنا، وإنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، لكن الفنان شاء أن يسترسل في كلامه ليقول: (لو أنني أنجزت دراستي الأكاديمية في إيطاليا مثلاً ورجعت بعدها إلي بلدي لصرت معلم أولاد أضحك عليهم ويضحكون علي).. هكذا، مع ضحكة مجانية أيضاً ومناسبة للمقام والمقال فضلاً عن ثقة بالنفس والتي تبدو وكأنها كانت تعرف الغيب. ففي هذا القول تسطيح أو ابتذال لا نرضاه لأب وأستاذ، إذ ينطوي على دلالات خطيرة، فهي تعني أولاً أن بلده لن ينصفه بعد عودته ولا يمكن أن يقدره أو يأبه له، وهذا تعميم مجحف بحق الوطن والمجتمع وغير مبرر بطبيعة الحال.. ومع ذلك كان بوسع الفنان أن يكتفي بهذا القول على ما فيه من فضول الكلام ونوافله.‏
أما الدلالة الثانية لهذه العبارات المستهترة فهي انتقاص الفنان من قدر المعلم وازدراؤه له والحط من قيمته والاستهانة بفضله، وهذا في الوقت نفسه يعني العقوق والتنكر للذين علمونا وربونا وأنشؤونا، أليست قيمة كل امرئ هي ما يحسن، كما قال أجدادنا الحكماء، مادام الفضل نابعاً من مدى عطاء المواطن لوطنه ومقدار فائدته لقومه ولو كان جامع قمامة وكانس أزقة.. فما بالنا إذا كان معلماً يحترق كالشمعة ليضيء السبيل أمام براعمنا وفلذات أكبادنا، وهل أصبح المعلم مهاناً إلي هذا الدرك الأدنى، ومحطاً للسخرية والاستخفاف وللتعبير والتشهير.. رحمه الله الشاعر أحمد شوقي في تبجيله للمعلم وإقراره بفضله، فقد قال كلمته الطيبة ومضى بعد أن رفع المعلم إلى مقام الأنبياء ومصاف الرسل..‏
قد يكون صباح فخري في البدء معلماً للموسيقا، وأي غضاضة في ذلك كما كان آخرون في هذا الصدد يغرسون في الجيل الناشئ قيم المعرفة والفضيلة وحب الموسيقا وتذوق الفن وعشق الجمال.. وهل ثمة أهم من هذه المهمة أو هذه الرسالة.. أليس هذا أيضاً حال الكثيرين في بلدنا بل في مدينتنا مثل الباحث والفنان مجدي العقيلي الملحن والمؤلف ومدرس الموسيقا الذي تتلمذنا عليه وصاحب كتاب (السماع عند العرب) ومن هذا القبيل ابراهيم الدرويش وأخوه ابن الموسيقار الكبير الشيخ علي الدرويش وهو المعلم ومدرس الموسيقا ومفتش التربية الفنية وأيضاً نهاد الفرا عازف الكمان ومدرس الموسيقا الذي عاد من دراسته العالية في القاهرة وأسس فرقة للموسيقا والتمثيل.. الأصل في مقومات الذات هو النبوغ والموهبة، إذ كل طريق طويل يبدأ بخطوة مادام الخالق منح عبده حنجرة ذهبية وبراعة في الأداء وقدرة على حسن العطاء، وإذ ذاك سوف يصل المرء بموهبته واقتداره وصبره إلى الغاية إذ لا يصح إلا الصحيح، وهذا ينطبق على صباح فخري نفسه في بداياته، ألم يكن مؤذناً رخيم الصوت بديع الأداء تنقاد لصوته جموع المصلين بنشوة وإيمان، وما الفرق بين ما يعطيه المعلم ويؤديه المؤذن هذا يخاطب العقل وذاك يناجي الروح.. مادام كل امرئ يضيء زاويته في مجتمعه ويقدم مابوسعه لأمته.‏
ومن قبيل الافتراض- جدلاً كما يقال، لو أن شخصاً آخر في مثل موقف صباح فخري هذا لكان بوسعه أن يلفظ عبارات مغايرة كأن يقول لو أتيحت لي في سالف أيامي هذه الفرصة لرحبت بفكرة السفر إلى العالم المتحضر وتمنيت الدخول إلى معاهده المتقدمة، حيث يتاح للدارس الاطلاع على مدى ما أبدعته جهود الباحثين وعطاءات النابغين في علم الموسيقا، وكذلك الإلمام بما قدمه النوابغ والعباقرة للبشر جميع من كنوز نفيسة وإبداعات خالدة، وأنه من هنا يبدأ العمل الجاد لمن تزود بالمعرفة تسلح بأصول البحث ومناهج الدرس، وتفهم طرق تدوين الألحان وكتابة الأنغام وفق طريقة الرموز الموسيقية المسماة (النوتة) أو (السولفيج)،ثم الدراية بعلم الأصوات (الفونيتيك) فضلاً عن معرفة سير وتجارب عظماء الموسيقيين لدى شعوب العالم المتحضر.‏
والإنسان بفضل تكوينه الإلهي وجهده الذاتي قادر على العطاء مادام حياً، والحياة نفسها تتجدد في كل مطلع شمس، وهذا سر التقدم الحضاري الذي لايقف ولا ينفد، وكما قال بعض نقادنا العرب قديماً : إن الله لم يقصر العلم والشعر على قوم دون قوم ولاخص به ناساً دون سواهم، ولاريب في أن الاستفادة من جهود الآخرين لايمكن أن تطغى على أصالتنا أو تقتلعنا من جذورنا أو تسلخ عنا جلودنا إذ إن الحضارة أخذ وعطاء.وهذا المنحى عرفناه في فجر نهضتنا العربية على صعيد بعثاتنا إلى حواضير العلم والتزود بمعطيات الفكر والأدب وسائر العلوم والمعارف والفنون، وما أروع التجديد إذا بني على الأساس الوطيد، إن المعرفة الحقة هي ضالة المجد المخلص، حيث وجدها التقطها وفوق كل ذي علم عليم.‏
والآن ووفق العبارة السائدة أن الشيء بالشيء يذكر، أقول بإخلاص وود واحترام، ثمة أمنية تجول في نفسي وهاجس يلح علي بين الحين والحين منذ سنين، وأنا أستمع وأستمتع بتراثنا الموسيقي الثري والجميل الذي كان لصباح فخري الفضل الكبير في بعثه وإحيائه حتى غدا على كل لسان وفي كل محفل ومهرجان.. أوأهمس في آذن فناننا الكبير، أما آن الأوان لإيجاد قدر من الانعطاف أوجانب من التغيير والتطوير في أغانينا التراثية مع الحفاظ على جوهرها والحرص على أصالتها، ويتم ذلك بتشكيل فرقة كورال كبرى تتألف من عشرات الشبان والشابات الذين يؤدون أغانينا التراثية بصورة جماعية محببة وبتوزيع اوركسترالي معجب، بحيث يقوم ذلك على مراعاة التنوع والانسجام معاً ضمن مسار التحاور الصوتي (الديالوغ) وخلق التآلف الصوتي والتناغم (الهارموني) المنشود.‏
ومثل هذا المنحى أثبت حيويته ونجاحه من خلال تجارب مميزة مثل فرقة عبد الحليم نويرة في القاهرة، وفرقة الرحابنة الموسيقية المسرحية في بيروت، بالإضافة إلى العديد من فرق الكورال الطريفة في حمص ودمشق وحلب التي ازدهرت بفضل جهود الطوائف الأرمنية والأرثوذكسية وسواها، وقد كانت تجربة الراحل حمزة شكور الناجحة خير مثال على صعيد التعاون بين الفعاليات الموسيقية الجماعية في عروض مشتركة انتزعت الإعجاب، كماأن جهود المجددين الآخرين في الموسيقا العربية محمودة على هذا الصعيد العربي مثل الرحابنة عاصي ومنصور وإلياس.. ومثل سمحة الخولي وسليم سحاب وأبو بكر خيرت وعبد الحليم نويرة، وسواهم من المجددين الذين يواكبون روح العصر ويحظون باستحسان متعاظم لدى الجيل الصاعد.. وقد استطاعوا بجدارة أن ينتقلوا بتراثنا الموسيقي من المحلية إلى العربية فالعالمية.. لقد نجح صباح فخري ومدرسته العريضة التي تكونت حوله في إيصال القدود الحلبية وسواها مثلاً إلى مصر التي لم تكن قبل عدة عقود من الزمن تفسح له ولأغانيه حيزاً في إذاعاتها، بل إن معظم الناس هناك لم يعرفوا مطربنا إلا بعد زمن متأخر ومثل هذا حدث في مصر أيضاً لفيروز وسائر الرحابنة حتى تجاوزوا حدود الوطن العربي إلى سائر ربوع العالم.‏
إن الفنان الفرد أو المطرب الأوحد الذي ينتصب أمام عمود الميكروفون ساعة أو ساعتين عبر زماننا المتسارع قد ولى زمنه أو كاد، لقد أدى رسالته على خير وجه عبر عقود من السنين وهو غير قادر على الاستمرار والصمود في المستقبل المنظور، وسبب ذلك اعتماد هذا المطرب التقليدي على التكرار أو الاجترار وعلى الرتابة والفردية ونحو ذلك في غمار رياح التغيير التي تهب في هذا العصر على مختلف الفنون من شعر ومسرح وموسيقا وتصوير ونحت.. النهر لايتوقف والتوقف جمود وزوال.‏
ولنا في سالف تراثنا الأدبي مايجدر أن نفيد منه في مسيرة حياتنا الثقافية والفنية المعاصرة فقد ألف أبو منصور الثعالبي في سالف العهد كتاباً قيماً انصرف فيه إلى دراسة الشعر المحدث الذي أبدعته قرائح شعراء عصره دون أن يلتفت إلى الشعر القديم الذي تكاثر حوله المؤلفون إذ قصد فيه إلى معاصريه من الشعراء كما نص عليه عنوانه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وفي الأندلس مضى ابن بسام على هذا الغرار إلى مدى أبعد على طريق التجديد أيضاً في كتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) حيث قال في مقدمته، وعلى نحو غير معهود من الجرأة والصراحة (.. وكل مرد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مجت الأسماع يادار مية بالعلياء فالسند، وملت الطباع لخولة أطلال ببرقة ثهمد. ومحت قفا نبك في يد المتعلمين.. وليس الفضل على زمن بمقصور).‏
إنها صيحات طامحة ذات شأن في رحاب الرغبة في التغيير والتطلع إلى التجديد.. ولعل الموشحات التي بزغت شمسها في الأندلس أيضاً خير مثال على مدى الانعطاف الكبير الذي جنح إليه أجدادنا على الصعيد الأدبي- الغنائي والتعانق المعجب بين الشعر والموسيقا.‏
في مثل هذه الأجواء من الطرافة والجمال ينعم الجيل المعاصر برواء الحداثة وحلاوة قرب العهد، إذ لكل جديد لذة، إن العطاء لاينفد وآفاق الإبداع لاتحد.‏
فهل يقدر لنا أن نترقب تحولاً ذا شأن في مسيرة صباح فخري المديدة الحافلة، فيخطو خطوة فنية جريئة وينعطف انعطافة ذكية متطورة، ثم يعمد إلى تأسيس فرقة كورال كبرى تحمل اسم (فرقة صباح فخري الغنائية القومية) بحيث تتجلى فيها موسيقا الشرق مسربلة بتقنية الغرب على نحو معجب، ويكون في ذلك نور على نور وعندئذ يتاح لموسيقانا أن تدخل في فجر جديد آخر يعزز هذه اللغة البشرية الأعم والأشمل، لغة العالم.‏
وبعد فإن مابادرت إلى قوله سلباً وإيجاباً ليس من باب التعالم ولا التطاول، إنه من قبيل النقد المخلص البناء الذي قد يجنح أحياناً إلى الانتقاد اللاذع بقصد الإثارة والتحريض، وإن ماحفزني إلى ذلك هو مشاعر حب وود واحترام، وأمل في أن نرى فناننا صباح فخري على خير مانرجو ونتمنى وهنا أستعير كلمات شاعرنا أبو ريشة لأقول ماقاله يوماً لسعدالله الجابري في نهاية المطاف:‏
شهد الله ماانتقدتك إلا‏
أملاً أن أراك فوق انتقادي.‏

جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024