الإثنين 2009-10-26 09:49:23 عروض
عبق الأندلس يحمله إلى دمشق.. "أنطونيو غالا"
 
في أمسية خريفية دمشقية، فريدة من نوعها، استقبلت مكتبة الأسد بكل الحب، الشاعر الإسباني الكبير «انطونيو غالا» وكعادتها، بحضورها الآسر الجميل، كانت برفقته نائب رئيس الجمهورية الدكتورة «نجاح العطار» وقد طفح وجهها بالبشر والترحاب الصادق وابتسامة عذبة لم تفارق محيّاها. كما غصت قاعة المسرح بعدد كبير من الدبلوماسيين، ومسؤولين في السفارة الإسبانية في دمشق، وشهدت الأمسية أيضاً حضور بعض الزهرات الدمشقيات من أديبات وكاتبات، ما كنّ ليحضرن، لولا اهتمامهن بالأدب والثقافة، واطلاعهن على أعمال ذلك الشاعر والروائي الذي سحر قلوبهن بفتنة الحضور، وعذب الكلام.
أمسية دمشقية إسبانية، انتقلت فيها روح الأندلس وروعة حضارتها لتندمج بسحر دمشق وألق خريفها. سيمفونية ثنائية عذبة أعادت وهج الماضي وأثارت ذكريات ألق الحضارة العربية التي قدّمت للغرب إبداعات لا تُعدّ ولا تحصى في مجال الفكر والفن والثقافة.
كان حضور الشاعر طاغياً، حيث صعد إلى المنصة بخفة ورشاقة شاب في الثلاثينات من عمره، وأصرّ على الوقوف طيلة إلقائه الشعر، حرصاً منه على حسن التواصل مع جمهوره الحبيب. كان مثل طفل يحنّ للعودة إلى أحضان أمه. وكانت عيناه الذكيتان اللامعتان تفيضان سروراً وبهجة، وتعبّران عن صدق مشاعره، بينما أخذ صوته يتماوج كهمسات تكشف روح الشاعر لديه. كل كلمة خرجت من فيه كانت قصيدة موشاة بعبير المحبة التي تربط بين سورية وإسبانيا. كانت بمنزلة ميثاق عهد ووفاء وعرفان بالجميل بفضل العرب على الغرب.. كان الجمهور مفتوناً بقامته المنتصبة، وإلقائه الصادق الأخّاذ، تعرّف عليه في هذه الأمسية شاعراً بعدما عرفه روائياً ترجمت أعماله الكثيرة في المسرح والرواية إلى العربية.
في المقدمة، عبّر عن سعادته لقدومه إلى دمشق، وشَكَر حسن الاستقبال والحفاوة، وألقى شعراً تغزّل به بمدينة دمشق وبجبلها قاسيون الذي صوّره بصورة جميلة من أعلى قمته، ومن أسفلها. وأشار (غالا) في أشعاره إلى حبه وتعلقه بالأندلس وقال: إن كل مدينة أندلسية هي جزء من حياتي وكياني، فقرطبة والدتي، وإشبيلية خطيبتي، وغرناطة حبيبتي، وملقة ممرضتي. كما خص بعض المدن السورية بشعره، حيث كان مفتوناً بمدينة حلب، ومعلولا، وحماة، ومصب الوادي الكبير.
وعن مدينة دمشق عبّر قائلاً:
«دمشق الحيّة كالحياة، أكثر روما من روما، أكثر كونيّة منها، أكثر ديمومة، أكثر تقلّباً، أكثر انسجاماً من أي مدينة على وجه الأرض، أكثر امتلاء بالحيوية الساطعة، دمشق المتحمّسة المستدامة الباقية في الحياة دمشق التي لا تمل ولا تحد، المأمولة والمستقبلية».
وعن مدينة اللاذقية قال:
«وسماء اللاذقية الزرقاء وبحرها السماوي، رائحة زهرة الليمون المتشبّعة به وأطلال أوغاريت حيث ترقد ثلاثة آلاف وخمسمئة سنة. الحياة خالدة في الربيع، هل تنام هذه الأطلال؟ أم نحن النائمون؟»
ومن قصيدة عنوانها: «دمشق»، اقتطفت ما يلي:
وصلت أعمى كالقديس بولص أو من كان لايزال شاؤول
مثلي اليوم، وصلت إلى الحي ينفتح على باب توما
وهبطتُ بين الحجارة هو يمضي آخذاً بيد الرب، وأنا بلا يدكِ التفتُ بعيني واثقاً بأني سألقى عينيكِ. أنتِ يا من كنتِ حناياي وملاكي ولم تكوني موجودة وأنا في عماي.
أتعثّر بزوايا الذكرى، أتعثّر بالصباحات الساطعة وضوء الياسمين المشتعل الذي هو أنتِ، بالسعادة التي هي ابتسامتك.
سألني الصوت الهادر: لماذا كنت ألاحقك، حُبّاً، أجبتُ حباً ليس إلاّ، وسقطت بوجهي على الغبار ولم أرَ بعدها.
ومن قصيدة «قاسيون ليلاً» اخترتُ ما يلي:
نهاراً تتسلقُ المدينة، شبه ساهية ببيوتها
بيوت الرمل على الرمل مثل عمامة بالية، لكن جمال ملايين الأنوار الزاحفة ليلاً تاج فريد.
الفقر الذي تفضحه الشمس يحوله ميزة المكفهر كنزاً برّاقاً. لا الغوطة أكثر بريقاً ولا أرضها أخصبُ. الحياة التي تنبضُ في سفح الجبل تحدثُ بأغمادها هذا الفناءَ المتلألئ والأخرس للحُباحب الأخضر، والورود البيضاء والذهبية إنها مثل عشّ أو واحة ـ من ألعاب نارية ضاجة جامد في ألقه، ناهض في ذاته، راضٍ بثرائه، مذهول به. أفكر بكَ أيها الملاك، مذهولاً بليل كلما ازداد حلكة ازددتُ انبهاراً.
وعن شغفه بمدينة (معلولا) يقول:
المدن الميتةُ هل تقع بي، لا تصلحُ أن تكون حتى مقالعأي حياة ممكنة مع ميّتٍ، وربّما أنا مخطئ.
يا معلولا الآرامية المتقلّبة، يا لاذعة، مثل قهوة يا مشبعةُ بالهال، يا مدثّرة بالجبل، يا المتوّجة بالصلبان. واثقة أنتِ برأسك الملتفت إلى الخلف أو إلى الداخل من أن العالم ينتهي في لغتك وفي واحتك.
ألنْ تنتهي الصخور التي تسقفك، تكلّلك بهالتها من الانسلاخ أبداً.
ألنْ ينزح أبداً لون الرمل الباهت عن تقاسيمك؟
ومع ذلك كله. يداعبك قوس قزح في وحشة المساء تنمو وردة في حضنكِ العقيم.
مخطأة مثلك أنتِ مثل شقوقك.
ما الذي تريد أن تقوله محاربوك - مغاورك حروفكِ وندوبكِ.
من صلّى أو أحب فيها أو أمامها.
ما فائدة التنحّي؟ هل الغياب طريقة لإبعاد الموت؟ أتاني زماني بما أرتضي فبالله يا نهرُ لا تنقضي
مضت الشمس ولم تنتبهي، ساحبة فوقكِ معطفها الرمّاني موشّحة الوجه.
يا معلولا كما قبل قرون. فلنتعلّم منها يا ملاكي.
جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024