الأحد 2009-12-20 01:05:07 اخترنـــا لكـــم
الخصوصيّة الثقافيّة والإدارة
حسان محمد محمود:
ربّما تكون السّمة الأبرزُ لاهتمامات العلوم الاجتماعيّة الآن هي: السّعيُ لكشف تفاصيلِ تأثير الثّقافة في حياة المجتمعاتِ و التّجمّعاتِ و الأفراد، و إدراك مدى وعمق هذا التأثير، فكلُّ حقلٍ معرفيٍّ يتناول هذا التأثير من زاويته وفق مفاهيمه وأدواته وغاياتِه وبما يتناسب مع الظّاهرة أو الظّواهر المعنيّ بسبر أغوارها، لا بل وصل الأمرُ إلى بحوثٍ علميّة تُثبت ـ إحصائيّاً ـ ارتباط بعض الظّواهر الطبيعيّة بمؤثّراتٍ ثقافيّةٍ، كتفاوتِ نسب نموِّ النّباتاتِ و اختلاف كمّيّاتِ إدرار الحليب عند بعض الحيواناتِ تبعاً لتعرّضها إلى تنويعاتٍ من الموسيقا.
تعود يقظة الاهتمام بتأثير الثّقافة في مناحي الحياة إلى عواملَ يمكن إجمالها بعنوانين عريضين اثنين:
ـ الأوّلُ منهما: الفطرةُ الإنسانيّة في البحث ومعرفة جوهر ما يبدو لاكتشاف محرّكاتِه من قوانين، و إدراكِ ما سوف يؤول إليه، و رسم مسار تغيّراتِه المحتملة أو المؤكّدة تسخيراً لفوائده و تفادياً لمضاعفاتِ عشوائيّته على الحياة البشريّة.
ـ أمّا الثّاني فهو: تعاظمُ مكانةِ ودور الثّقافة في حياة البشر أفراداً وجماعاتٍ، ترى ذلك في جميع أحوالهم المتضادّة: في اتّفاقاتهم و صراعاتِهم ، في هدوئهم و صخبهم، في حزنهم و فرحهم، في بؤسهم و سعادتهم، في عبوديّتهم و حرّيتهم، في هزائمهم وانتصاراتِهم.
ثمّ أتتِ التقنيّة الاتّصاليّة المعاصرة عالية المستوى وفائقة السّرعة لتنشرَ وتُعمّمَ منتجاتِ السّياساتِ الثقافيّة المرسومةِ من قبلِ الحكوماتِ و الشّركاتِ، جاعلةً الأرضَ مرجلاً ثقافيّاً يعجّ بعاصفاتِ الأفكارِ و المعتقداتِ و المؤلّفاتِ، تتضاربُ أو تأتلفُ بعضها مع بعض، وليمسي الاحتكاكُ الثقافيّ ـ صراعاً أو حواراً ـ في متناول الجميعِ بكلّ تفاصيلهِ وبسرعةٍ عجز الخيالُ عن تصوّرها قبل عشرٍ من السّنين.
 
بدايةً: لا بدَّ من تحديد مفهوم الثّقافة وبيان المقصود بهذا المصطلح في محاولةٍ لتصويبِ ما شاع من فهمه، فهو غالباً ما يتمُّ تداوله وفق أطرٍ وفي سياقاتٍ تبتعد به عن فحواه، فالبعض يقصرُ فهمه للثّقافة على المعرفة، ومنهم من يقصرها على نتاجِ الإبداع الفنيّ، وذاك يراها دالّةً على مجموعةٍ من القيم و العاداتِ، وهكذا.
وما خَلصت إليه جهود علماء الاجتماع في سعيهم لتحديد هذا المفهوم يتّفق وما تبنّته منظّمة اليونيسكو إذ اعتبرتِ الثّقافة "كلّ مركّبٍ من عناصرَ روحانيّةٍ ومادّيٍة وفكريّةٍ ووجدانيّةٍ يختصُّ بها مجتمعٌ أو مجموعةٌ من النّاس، وهو لا يشمل الفنونَ والآدابَ فحسب بل أيضاً أنماطَ الحياة والحقوقَ الأساسيّةَ للإنسان ومنظومةَ القيم و التّقاليدَ و المعتقداتِ.".(1)
غير أنّه لا يُكتفى لسبر مدلولاتِ هذا المفهوم أن ننظر إليه مجرّداً عن وظيفته الاجتماعيّة، إذ تقتضي الحصافةُ أن نلحظ طيف تأثيراتِ الثّقافة في شتّى مجالاتِ الحياة وأن نراها وسط ما يُحيط بها من مفاهيم وظواهر، بذا ندرك أين تتموضعُ بالنّسبة لسواها، ونعرفُ حجمها ومدى فعّاليتها فيما عداها، وهو ما يضفي على المفهوم المجرّد للثّقافة شخصنةً وتحديداً ملموساً لتجلّياته الواقعيّةِ المباشرة، وذلك لا يكون إّلا بالنّظر إليها في وظيفتها المنتجةِ للمعايير النّاظمة لسلوكِ الأفراد و المجتمعاتِ، فالثّقافة راسمةُ الحدود بين الصّحيح و الخاطئ، وبين المقبول و المرفوض، وبين المسموح و الممنوع، وهي التي تضع سلّم جزاءاتِ انتهاك هذه المعايير.
كمّا لابدّ من تناوله في إطار نسبيّته المكانيّة والزّمانيّة، فالثّقافات مختلفةٌ باختلاف المجتمعاتِ ومتبدّلةٌ في المجتمع الواحد بين عصرٍ وآخر، ونسبيّة الثّقافة تتبدّى من خلال نسبيّة المعايير التي تُنتجها، فما يُعتبر في الصّين صائباً لا يعتبر كذلك في فرنسا، وما هو قيمةٌ إيجابيّةٌ أو معتقدٌ راسخٌ الآن قد لا يكون كذلك بعد حين.
وإن أردتَ دليلاً على نسبيّة المعايير ليس عليك إلا أن تنظر حولك وتُلاحظ انزياحَ أولويّات سلّم الممنوعات وتخلخل رسوخ بعض المعتقدات في أسرتك ومحيطك المباشر.
ألم ترَ كيف بطشتِ الإدارة الأمريكية بامتيازاتِ مديري المؤسّسات الماليّة من تعويضاتٍ ورواتبَ ضخمة (بورصة ـ مصارف ـ شركات تأمينٍ ـ شركات ائتمانٍ) جرّاء ما أصاب نظامها الماليّ مؤخّراً من كوارث؟ متجاوزةً بإجراءاتها كلّ إرث استقلاليّة المؤسّسات وحرّيّتها في العمل، خارقةً حرمة الأسس الثقافية لنظامها الاقتصادي حتّى وصفها بعض المدافعين عن قيم السّوق الحرّة بأنّها بدأت تُطبّق سياساتٍ اشتراكيّةً!
بمعنىً آخر: تُشكّل الثّقافة محرّكاً ومحدّداً للسلوك الجماعيّ و الفرديّ، و التّبدّلاتُ التي تصيب ثقافةً ما سواء كانت تدريجيّةً أو مفاجئةً تقدّميّةً أو تراجعيّةً تظهر على شكل تغييرٍ في المعايير والجزاءاتِ الواقعة لقاء عدم الانصياع لها.
 
ولِما للثّقافة من سلطانٍ في السّلوك الإنسانيِّ تطوّرت نظرةُ الإدارة إلى نفسها، فتحوّلت من علمٍ كمّيٍّ يرى البشر رؤيتَهُ للآلاتِ وينظر إليهم دون أن يُفرِّقهم عن الوسائل المادّيّةِ إلى علمٍ يُعنى بالسلوك الإنسانيِّ دوافعَ واتجاهاتٍ وعواملَ محبطةٍ و محفزةٍ لتغيّراته، ما استدعى تحوّلاتٍ في الممارسة الإداريّة لتصبح أكثر التصاقاً بالإنسان وخصائصه الثقافيّة، أي أنّ تأثيراتِ النسبيّة الثقافيّة ظهرت على مستويي علم الإدارة و الممارسة الإداريّة، وهو ما سوف نُبيّن ملامحه فيما يأتي.
 
أوّلاً: دور الثّقافة في تطوّر علم الإدارة:
يَلحظُ المثابر تمعّناً في مسار تطوّر علم الإدارة أنّ الفارق النوعيّ بين شتّى مراحل تطوّره يكمن في جانبين: أوّلهما: الاستفادة من الأدواتِ الإحصائيّةِ و الرّياضيّةِ و منجزاتِ سائر العلوم، وثانيهما: استكشاف كنه الرّابط بين الثّقافة و مختلف مُكوّناتِ الظّواهر الإداريّة موضوع بحث علم الإدارة، فتاريخ هذا العلم نشأةً وتطوّراً يُبيّنُ أنّ تصاعد منح الاعتبار للخصائص الثقافيّة للأفراد و مجموعاتِ العمل كان ملازماً للتحوّلاتِ الكبرى التي أصابته مذاهبَ و مناهجَ ونتائجَ وأدواتٍ.
لقد كان للمقاربة المرتكزة على دور الثّقافة الفضلُ في تطوير الإدارة علماً وممارسةً، وهو ما تجلّى نظريّاتٍ إداريّةً تتناول أوجه نشاط الإدارة ومشاكلها، وقد بلغت هذه المقاربة مبلغاً ساهمت معه في سدّ الكثير من الثّغرات التي شابت بنيان علم الإدارة، ففسّرت بعض ما صَعُبَ تفسيره سابقاً، وأكّدت صواب أو خطأ ما ذهبت إليه فرضيّاتُ بعض العلماء، و الأهمّ من ذلك بلورت ـ المقاربة الثقافيّة ـ صيغاً تطبيقيّةً للكثير من الميادين التي يُعنى بها هذا العلم، مثل: التّحفيز و طرق الإشراف و القيادة و أساليب الرّقابة و التّنسيق و إدماج العاملين في مسار تحقيق أهداف المنظّماتِ أو المؤسّساتِ و الارتقاء بجودة المنتج و الخدمة وتعظيم الأرباح وفضّ النزاعاتِ والمجموعاتِ غير الرسميّة واستغلال الفرص ..الخ.
 
إنّ تزايد الأهميّة المعطاة للبعد الاجتماعيّ ـ الثقافيّ في النظريّاتِ الإداريّةِ لا يعود إلى تطوّرٍ مستقلٍّ لعلم الإدارة عمّا يجري في محيطه بل هو مستندٌ إليه ومستمدٌّ منه نسغ نموّهِ، فالعلوم الأخرى بتطوّرها تحفزه على تطوير نفسه عبر ما توفّره من مناهجَ ومفاهيمَ وأدواتٍ تُيسّر له ُسبلَ تطوّره، وكذا المستوى الحضاريّ الذي وصل إليه البشر، إذ بفضل التطوّراتِ المركّبة التي شهدتها المجتمعاتُ (خصوصاً في القرن المنصرم) كان لزاماً على علم الإدارة أن يتّسق مع هذه التطوّراتِ ويستفيد منها ويفيدها، ولهذا تزامن ظهور النظريّات الجديدة وتطوير الموجود منها مع التغيّراتِ البنيويّةِ العميقة للمجتمعاتِ و ما انبثق عنها من أفكارٍ وفلسفاتٍ ونظمٍ معرفيّةٍ وقيمٍ ميّزتِ الأحداث الكبرى في حياة البشريّة وأعطتها ماهيّتها الثقافيّة، فنظريّة الإدارة العلميّة نشأت في بداياتِ القرن العشرين إثر تضافر ثقافة مكننة العمل مع ما وفّرته دهشة الإنسان بالكهرباء، وخلال ثلاثيناتِ القرن الماضي وفي رحم الأزمة الاقتصاديّة العالميّة ولدت نظريّة التّنظيم البيروقراطيّ على يد الألمانيّ ماكس ويبر التي نظرت للمؤسّسة بأنّها تشبه الآلة لكلّ جزءٍ منها دورٌ، وكان لانتشار أفكار النمذجة لكل شيء بما في ذلك المجتمع (عنصريّة النّازيّة وتقسيم البشر إلى أعراق) بصماتٍ واضحةً على هذه النظريّة. و وسط انتشار الأفكار الاشتراكيّة و ما بثّته الحرب الأهليّة الإسبانيّة من قيمٍ وأفكارَ تداعى الاختصاصيّون لتلافي سلبيّاتِ نظريّات الإدارة المهملة للبعد الإنسانيّ فوُلدت نظريّاتُ العلاقاتِ الإنسانيّة في الإدارة، وبعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية و في بيئةٍ ثقافيّةٍ طغت عليها آثار حركاتِ الاستقلال وانتشار قيم حريّة الشعوب ظهرت نظريّاتُ النّظم وحلقات الجودة و الإدارة بالأهداف، وفي تسعيناتِ القرن الفائت وبتأثيرٍ من ضغوطاتِ العولمة واضمحلال الحدود و الحواجز بين المجتمعاتِ ظهرت نظريّات إدارة الجودة الشّاملة و الإدارة بالنّتائج الاقتصاديّة و الحصيلة الاجتماعيّة.
وعند كلّ تجديد في هذا العلم كانت تتمّ إعادة صياغةٍ شاملةٍ لمفاهيمه وأدواته وتظهرُ مفاهيمٌ ومصطلحاتٌ جديدةٌ تعكس المعطياتِ الحضاريّة المستجدّة، وهنا لا نجد بأساً من عرضٍ موجزٍ لبعض مذاهب علم الإدارة لبيان ملامح التغيّر الذي طال هذا العلم.
ـ فمذهبُ الإدارة العلميّة ( تايلور و فورد) ركّز على معايير الكفاءة و الإنتاجيّة وأغفل العوامل الإنسانيّة، معتبراً أنّ العاملين يُفضّلون حكم المديرين على كونهم أحراراً، وأنّ مُحفّزهم الوحيد هو المال، فالعامل كالآلة ولا يُميّزه عنها إلا نوعيّة الوقود التي ُتسيّره. أتلاحظ ارتكاز هذه النظريّة على نظرة العامل لذاته و على القيمة المعطاة للمال التي تلعب دور الناظم لسلوك أطراف علاقاتِ العمل؟.
ـ أمّا المذهب الكمّيّ فيعتبر المؤسّسة بنيةً منطقيّةً تُختزلُ العلاقات فيها إلى رموزٍ وعلاقاتٍ رياضيّةٍ، و أنصاره يُركّزون على فكرة إمكانيّة قياس كلِّ شيءٍ باستخدام النّماذج الرياضيّة (تعظيم الأرباح و المبيعاتِ، استخدام الآلاتِ، تقليل التّكاليف، حساب كلّ شيءٍ من خدماتٍ ووقتٍ ومكافآت..الخ ).
ـ المذهب القراراتيُّ: ويرتكز على منهجٍ عقلانيٍّ تحليليٍّ ِعماده تحليل المشكلة واستعراض طرق حلّها ومن ثمّ اتخاذ القرار باختيار الطّريق الأفضل، وبذلك تكون الأهميّة الحاسمة هي للقراراتِ التي يتّخذها المديرون، فجوهر الإدارة هو تقرير ما يجب فعله وكيف يتمّ فعله.
ـ و المنعطف الكبير في إدخال العامل الثقافيّ في معطياتِ البحث و الاستقصاء كان بظهور مدرسة العلاقاتِ الإنسانيّة في الإدارة التي أعطتِ الأولويّةَ لسلوك العاملين، و لفتتِ النّظر إلى الجانب المعنويِّ في التّحفيز، و حَثّتْ على إعطاء أهميّةٍ خاصّةٍ لأساليب القيادة و التّدريب والاتصالاتِ، ُمعتبرةً نجاح المؤسّسات قائمٌ على كفاءة إدارة أفرادها، جاعلةً من جماعيّة اتخاذ القراراتِ نبراساً لها.
ـ ثمّ ظهرت مدرسة العلاقاتِ الاجتماعيّة: التي " تعتبر ممارسة الإدارة على أنّها نظامٌ للعلاقاتِ الثقافيّة المتداخلة و المتفاعلة، وهي ذات توجّهٍ اجتماعيٍّ يبحث عن تحديد مختلف المجموعاتِ الاجتماعيّة الموجودة في المؤسّسة أو المنظّمة وعن توضيح علاقاتها الثقافيّة، ويعمل على تكامل هذه المجموعاتِ في نظام اجتماعيٍّ متكاملٍ". (2).
ـ أمّا مدرسة النّظم: فاعتبرت المؤسّسة نظاماً يتكوّن من أنظمةٍ فرعيّةٍ (مديريّاتٌ وأقسامٌ للإنتاج و التّسويق و التّمويل و التّخطيط) تتكامل وتعمل مُترابطةً مع بعضها بتنسيقٍ نابعٍ من أهداف المؤسّسة، و جوهر عمل النّظام يكمن في فعاليّته بتحويل المدخلاتِ (أموالٌ ـ تقنيّاتٌ ـ موادَّ أوليّةٍ ـ قوانينٌ ـ قيمٌ ومعتقداتٌ ـ ثقافة عمل ...) إلى مخرجاتٍ، ومتى كفَّ النّظام عن عمليّة التّحويل هذه انعدم وجوده ومات. هذا النّظام (المؤسّسة) يرتبط بأنظمةٍ أدنى منه وبأخرى أعلى منه، وهو ُمؤثّرٌ ببيئته ويتأثّر بها آخذاً منها مدخلاته مانحاً إيّاها مخرجاته(سلعٌ وخدماتٌ)، والإدارة ليست إلا فعّاليّاتِ التّنسيق بين النّظم الفرعيّة لتنشيطها والحيلولة دون تعارضها مع بعضها.
ـ المدرسة الظرفيّة: و تقوم على تحليل النّظم لإظهار مكوّناتِ كلّ حالةٍ إداريّةٍ لاستخلاص النّتائج من هذه الحالة وتطبيقها متى تكرّرت، وقد وَضَعَتْ نماذجَ عامّةً للإدارة حسب الحالة التي تتطلّب تدخّلاً، فتارةً تطبّق قواعد محدّدةً بمركزيّةٍ شديدةٍ لاتخاذ القراراتِ إذا ما كانت البيئة مستقرّةً، وتارةً تكون أكثر حركيّةً وتفاعلاً مع البيئة إذا ما كانت غير نمطيّةٍ ومتغيّرةً، أي أنّها أَتْبَعَتِ القرارَ أو السلوك للعوامل الحاكمة للحالة موضوع التدخّل بما فيها العوامل الثقافيّة.
ونظراً لضيق المجال سنكتفي بما سبق عرضه من مدارس الإدارة غير غافلين عن مدارس أخرى مثل: الإدارة بالأهداف، الإدارة الاستراتيجيّة، الإدارة بالنّتائج الاقتصاديّة و الحصيلة الاجتماعيّة وسواها من المذاهب التي أدرجت بصورةٍ معمّقةٍ وشاملةٍ البعد الاجتماعيّ ـ الثقافيّ في متن اهتماماتها ومقولاتها.
 
ثمّة وجهٌ آخرَ لعلاقة البعد الثقافيّ بتطوّر علم الإدارة يتجلّى بالملامحِ الثّقافيّة للمجتمع الذي ينتمي إليه الباحث والأطرِ الثقافيّة الحاكمة للنظريّة الإداريّة، إذ تُعَيّن هذه الملامح و الأطر أولوّياتِ البحث وفرضيّاته ومنهجه، فهذه النظريّة الإداريّة أو تلك قائمةٌ على تحليلٍ لواقع مؤسّساتٍ و أفرادٍ و علاقاتٍ موجودةٍ في مجتمعٍ مُعيّنٍ بأطره الثقافيّة الخاصّة، وهذا الباحث أو ذاك وُلِد وترعرع (شخصيّاً وعلميّاً) في ظلّ هذه الأطر الثقافيّة من قيمٍ ومعتقداتٍ و عاداتٍ ودرجة تقدّمٍ تقنيٍّ و .. و.. .
و خشية المبالغة في إيراد الأمثلة حسبنا أن نشير مثلاً إلى أنّ الخصائص الثقافيّة اليابانيّة (تقديس العمل وجماعيّته) أسهمت في نشوء نظريّات فِرَقِ العمل و حلقات الجودة، و الميكيافليّة ولدت في إيطاليا "في سياق الحقبة التي كانت فيها إيطاليا في حالة فاصل رتبويٍّ كبيرٍ بين الرّؤساء و المرؤوسين"(4)، وماكس ويبر ـ بن الثّقافة الألمانيّة النزّاعة للتجريد ـ رأى أنّ السّلطة تكمن في الوظيفة، فيما اعتبر الفرنسيّ فايول أنّ السّلطة منبعها الإنسان، أمّا ميري بيركر الأمريكيّة فتعتبر أنّه " لا ينبغي أن يعطي شخصٌ ما الأوامرَ لشخصٍ آخر، بل يتوجّبُ عليهما الاتفاق لاتّخاذ أوامر الحالة جماعيّاً" (5).
ومجمل النظريّات الأمريكيّة المتعلّقة بأساليب القيادة تشترك فيما بينها بارتكازها على نشر و تعميق إشراك العاملين في اتخاذ القراراتِ اتساقاً مع غلبة النّزعة الفرديّة في الثّقافة الأمريكيّة وقيم الديمقراطيّة التي تدّعيها (نظريّة دوغلاس ماك كريفور ـ نظريّة ليكرت ـ مصفوفة إدارة الأعمال لبلاك ومتون).(6)
باختصارٍ: قاد التطوّر الهائل في مختلف مناحي الحياة (اقتصاديّاً وسياسيّاً وتقنيّاً ) ثورةً معرفيّةً وثقافيّةً شاملةً عزّزها تعميمُ وتطوّر أساليب نشر الوعي بمنتجاتِ الثّوراتِ الثقافيّة، ما ساق المؤسّساتِ إلى إعادة النظر بنفسها من حيث أهدافها وطرق إدارتها وأنماط تفاعلها مع العاملين فيها وبيئتها، تلك التّحوّلاتُ الاجتماعيّةُ الكبرى استتبعت تطوّراً مرافقاً لها ومتزامناً معها للنظريّاتِ الإداريّة وعلم الإدارة.
 
ثانياً: أثر الثّقافة في الممارسة الإداريّة:
تمتاز الممارسة الإداريّة بقدرتها على جذب اهتمام غير المختصّين بعلم الإدارة، لأنّها تُشبع نهمكَ للملموس و العيانيّ و المعاش، و تُبعدكَ عن فلسفة الإدارة وتجريداتها التي قد لا تعنيك.
للممارسة بريقٌ يخطف أبصار المجرّدين و المجرّبين، لأنّها من جهةٍ أولى بيانٌ لجدارة النظريّة ومحكٌّ يثبت صحّة أو خطأ الفرضيّاتِ التي بُنيت عليها، ومن جهةٍ ثانيةٍ هي المعين الذي منه تستقي العقول أفكارها وتَلحظ منه إرادة البحث الظّواهرَ التي تحتاج إلى تعميماتٍ نظريّةٍ، لذا يمكننا وصف الممارسة الإداريّة بالحكم و القاضي الذي لا يختلف بشأنه محلّقٌ في سماء العلم وغوّاصٌ في لجـّة العمل.
إزاء ممارسةٍ أفضل للإدارة تُثار مشكلة نقل النظريّاتِ الإداريّة من مجتمعها الذي أنتجها إلى باقي المجتمعاتِ بغية تطبيقها و الاستفادة منها في ميادين العمل، وجوهر المشكلة إنّما هو اختلافاتٌ ثقافيّةٌ بين المجتمع المنتج للنظريّة و المجتمع المستورد لها، فالنظريّة الإداريّة موسومةٌ بثقافة المجتمع المنتج وتحمل في طيّاتها جيناته الثقافيّة التي تؤسّس لبداية الافتراق بين مقولاتها ومفاهيمها وفرضياتها من جانب وبين قيمٍ ومعتقداتٍ وعاداتٍ و قوانينَ وآلياتِ حكمٍ قد تقف حائلاً أمام تطبيقها من جانب ثانٍ.
" تُظهر محاولة نقل فنّ قيادة الآخرين دون الأخذ بالحسبان قيم المرؤوسين بأنّها تحظى بالقليل من فرص النجاح.... تحاول دولٌ لها مستوياتٌ مختلفةٌ من النموّ الاقتصاديّ و البنى الاجتماعيّة المختلفة و النّظم الاقتصاديّة و المؤسّسات و القيم الأصليّة امتلاك التّقاناتِ (الإداريّة ـ المحرر) الجديدة نفسها، وهذه التّقانات لا تكون محايدةً قياساً إلى القيم: ويعني استعمال هذه التقاناتِ بأنّه يتوجّب على سكّان البلد المستقبل تعلّم التقنيّاتِ الجديدة للقيادة، وسلوكيّاتٍ جديدةً باعتبارهم مرؤوسين." (7) .
لذا كان الأصعب لناقلي النظريّات تكييفَ محتوياتِ المنقولِ مع خصائص المنقول إليه وأقلمةَ مفاهيم النظريّة المنقولة مع النّسق الثقافيّ السائد في المجتمع المنقولة إليه، ولعلّ أقرب تشبيهٍ لهذه الحالة ما يفعله جهاز المناعة في الجسم حين يرفض عضواً مزروعاً فيه بسبب اختلاف تركيب البروتيناتِ بين المزروع و المزروع فيه.
" يُسبّب عنق الزجاجة الثقافيّ لمحاولاتِ انتشار التّقاناتِ الجديدة للقيادة نتائجَ على سير المؤسّسة، مثلاً إذا أخذنا قناة نقل الشكاوي في البلد ذي الفاصل الرتبويّ القصير (أي البلدان التي تسمح ثقافتها بأن تكون المسافة بين الرئيس و المرؤوس قصيرة ـ المحرر) فإنّنا نعتبر من أجل قيام علاقاتِ عملٍ فعّالة نستطيع أن نسير باختصار الخطِّ الرتبويِّ، وننقل الشكوى مباشرة إلى المدير العامّ للمؤسّسة، ويكون من الصّعب تنفيذ أيّ قناة في البلدان ذاتِ الفاصل الرتبويّ الكبير، سوف يخشى المرؤوسون إجراءاتِ الانتقام، وسوف تكون الشكاوى مبالغاً فيها..." (8) .
" ... تعلّمَ القادة الذين سيعملون في البلدان التي تولّد ثقافتها فاصلاً رتبوياً كبيراً السلوك كسلطويين واضحين من أجل أن يكونوا فعّالين" (9) .
وقد جرت محاولاتٌ لتصنيف البلدان وفق ارتباط نمط الإدارة فيها ببعض المتغيّراتِ الثقافيّة، في محاولةٍ لإظهار أثر النسبيّة الثقافيّة في الممارسة الإداريّة، وقد استطاعت هذه الدراسات التوصّل إلى بعض السّماتِ المشتركة في أساليب الإدارة بين البلدان المنتمية إلى نسيجٍ ثقافيٍّ واحدٍ.(10).
وإن كان مبرّراً الاستفادة من النظريّات الإداريّة المُنْتَجةِ في مجتمعاتٍ أخرى فإنّ استيراد الإداريّين ليس مقبولاً لأنّ " الإدارةَ مهنةٌ محليّة، إذ تعمل في بيئتها و الظّروف المحليّة المحيطة بها، فلا بدّ من تكوين إداريّين محلّيّين أكفّاء ليُحسنوا ممارستها" (11).
ألم تدمّر الصّهيونيّة الأمريكيّة العراق ـ إضافةً لآلتها العسكريّة ـ بوساطة مستشاريها الإداريّين في الوزارات العراقيّة؟
تَبرز المحدّداتُ الثقافيّةُ للممارسة الإداريّة المباشرة من خلال تفحّص علاقاتِ التّفاعل بين المؤسّسة وبيئتها وفي تفاعلاتها الداخليّة، ولهذا سوف نسلّط الضوء على هذين المسارين للتّفاعلاتِ إظهاراً للعناصر الثقافيّة الأساسيّة في عمل المؤسّسات وإداراتها.
1ـ على مستوى علاقة المؤسّسة بالبيئة:
ترتبط المؤسّسة بالبيئة بتيّارين حركيّين من التفاعلاتِ:
التيّار الأوّل: تيّارٌ خارجٌ من المؤسّسة باتجاه البيئة، وفيه نوعين من المكوّناتِ (المخرجات):
مخرجاتٌ ماديّةٌ: ما تقدّمه المؤسّسة من سلعٍ وخدماتٍ.
مخرجاتٌ ثقافيّةٌ: ما تقدّمه المؤسّسة للمجتمع من تجربتها الخاصّة، وهي بذلك تسهم في صياغة ثقافة المجتمع عبر إبرازها نتائج تفاعلاتها الدّاخليّة لما هو خارجها، مثال ذلك: أنظمة حوافزخاصّةٌ، تجارب بتنظيم العمل والتعامل بين الرّؤساء و المرؤوسين، تقنيّاتٌ مخترعةٌ في المؤسّسة، حلولٌ مبتكرةٌ لمشاكل تعاني منها مؤسّسات أخرى، نظرةٌ جديدةٌ لدور المرأة في حيّز المؤسّسة وخصوصيّة عملها، اقتراحاتٌ لتعديل أنظمةٍ وقوانين، رؤيةٌ جديدةٌ لبعض الوقائع، أفكارٌ، أشخاصٌ مهنيّون وقياديّون قد تستفيد منهم مؤسّسات أخرى، معاييرُ أداءٍ، طرقُ قياسٍ مستحدثةٌ،...إلخ.
هذا فضلاً عن أنّ المؤسّسات مكان احتكاكٍ وحوارٍ ثقافيٍّ بين أفرادها، مما يؤدّي إلى ترسيخ أو تهميش بعض المكوّنات الثقافية لهم، فينعكس على سلوكهم في أسرهم، أي أنّ ثمّة تيّارٌ من التّأثيراتِ الثّقافيّة بين المؤسّسة و البيت، إذ غالباً ما يعود العاملون إلى عائلاتهم محمّلين بتجاربَ واستخلاصاتٍٍ قيميّةٍ واعتقاديّةٍ جديدة جراء حوارهم مع زملائهم وملاحظتهم ومحاكمتهم لثقافات أقرانهم في العمل.
التيّار الثّاني: تيّارٌ يتشكّل من تأثير البيئة في المؤسّسة، وهو بدوره مُكوّنٌ من نوعين من المدخلاتِ:
مدخلاتٌ ماديّةٌ، مثل: أوضاع المنافسين، تقنيّاتٌ ماديّةٌ، أدواتٌ، موادَّ أوّليّةٍ، بنيةٌ تحتيّةٌ من طرقٍ وسدودٍ وجسورٍ ومشافٍ وجامعاتٍ وشبكاتِ هاتفٍ، أموالٌ، أوضاعٌ اقتصاديّةٌ..الخ.
مدخلاتٌ ثقافيّةٌ، وهي نوعان: الأوّل منهما يؤثّر في نشاط المؤسّسة المباشر وفي مبرّر وجودها من قبيل: عاداتِ شراء السّلعة أو الخدمة المقدّمة من قبل المؤسّسة، تسهيلاتٍ حكوميّةٍ، بيروقراطيّةٍ، فسادٍ، مجملِ القوانين الحاكمة وسائرِ الأنظمة المحدّدة لنشاط المؤسّسة، درجةِ التطوّر التقنيّ، تفضيلاتِ المستهلكين، موافقةِ السّلعة أو الخدمة لسلّمِ القيم و المعتقداتِ ..الخ .
أما النوع الثّاني من المدخلاتِ الثقافيّة فهو ممّا يؤثّر في المؤسّسة بصورةٍ غير مباشرةٍ ولا يطال مبرّر وجودها، ويتكوّن من :قيمٍ ومعتقداتٍ ومركباتٍ ثقافيّة تتسلّل إلى داخل المؤسّسة عبر عمّالها ومديريها، مثل: ثقافة العمل و النظرة إليه، خصائص شخصيّة الفرد الانفعاليّة، معتقداته، المنبت الإقليميّ ولونه الثقافيّ، درجة الفرديّة، مُكنة قيم الالتزام بالقوانين، درجة التّعليم، النّظرة للمرأة في العمل..الخ.
و المشترك بين تياريِّ التّفاعلاتِ هو كائنٌ ثقافيٌّ يدعى الإنسان، فالعامل في مؤسّسةٍ ما مستهلكٌ بالنسبة لمؤسّسةٍ ثانيةٍ، و دوافع سلوكه بوصفه عاملاً تختلف عن مثيلتها باعتباره مستهلكاً، كما أنّ السّلعة أو الخدمة المقدّمة من قبل المؤسّسة تهدف لإشباع الحاجاتِ الإنسانيّة التي تدين نشوءاً وتطوّراً للسّياق الثقافيّ الموجودة فيه. ومن خارج المؤسّسة تَرِدُ التّأثيراتُ الثقافيّة على تفاعلاتها من خلال خصائص المورّدين و الدّائنين وواضعي القوانين و عاملي أجهزة الرّقابة و..و..الخ ، لأنّهم بدورهم كائناتٌ ثقافيّة أيضاً.
 
2 ـ على مستوى التّفاعلاتِ داخل المؤسّسة:
من الناحية الوظيفيّة تمارسُ الإدارة وظائفَ متكاملةً من تخطيطٍ و تنظيمٍ و توجيهٍ و رقابةٍ لتحقيق أهداف المؤسّسة، أما من النّاحية البنيويّة فإنّ الإدارة مستوياتٌ مرتبةٌ هرمياً ومرتبطةٌ أفقيّاً بتكامل أنشطة أقسامها ( إدارة إنتاجٍ ـ إدارة تمويلٍ ـ إدارة توظيفٍ ـ تسويقٌ ـ تطوير المنتج...)، وكلّ إدارةٍ تتبع لها مجموعةٌ من البنى التنظيميّة الأدنى (قسمٌ ـ فرعٌ ـ دائرةٌ ...).
وتُمارَسُ وظائف الإدارة جميعها في كلّ مستوىً بنيويٍّ، فثمّة تخطيطٌ وتنظيمٌ ورقابةٌ للإنتاج وكذا للتمويل و التّسويق و التّوظيف ..الخ.
تَبْرُزُ الخصوصيّةُ الثّقافيّة في تفاعلاتِ المؤسّسة الداخليّة بشكلٍ مستمرٍّ ودون توقّفٍ في كلِّ لحظةٍ وآنٍ في جميع وظائف الإدارة ولدى مستوياتها البنيويّة كافّة، كما تَحْضرُ بقوّةٍ المكوّناتُ الحضاريّة لشخصيّاتِ العاملين و المديرين و الجهاتِ الإشرافيّة و الوصائيّة العليا (درجة تعليمهم ـ أولويّاتهم ـ منبتهم الإقليميّ ـ ما يعتبرونه مرجعيّةً روحيّةً ـ درجة سلطويّتهم ...الخ).
لقد ظهر في أدبيّات الإدارة مؤخّراً مصطلحٌ جديدٌ هو: ثقافة المؤسّسة أو المنظّمة، وكان ذلك حصيلة جهدٍ وملاحظةٍ للفروق بين المؤسّساتِ بهدف معرفة أسباب تبايناتها في نتائج أعمالها.
نتحدّث هنا عن روحيّةٍ معيّنة تشبه الاختلافاتِ النفسيّة و القيميّة بين توأمين حقيقيين برغم تطابق شكليهما وانتمائهما العضويّ الواحد لأسرةٍ واحدة، و السؤال هو: ما الذي يشكّل ثقافة المؤسّسة؟ أو ما هو التركيب الكيميائيّ لنكهتها ورائحتها المميّزة؟لماذا تتباين المؤسّسات برغم وجودها في إطارٍ مجتمعيٍ واحدٍ بمكوّناته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتشريعيّة و التقنيّة وبرغم اشتراكها في نوعيّة نشاطها؟
مثلاً: ما الذي يميّز الفرع (س) للمصرف العقاريّ عن الفرع (ع) من ذات المصرف؟
تبيّن البحوث الأثرَ الجوهريّ للروائزِ الثّقافيّة في إشادة صرح ثقافة المؤسّسة، وهذه الروائز هي بنيةٌ مؤتلفةٌ من القيم و المعتقداتِ و الممارساتِ و أنماط العلاقاتِ وطرقٍ وتقنيّاتٍ وأساليبَ واتجاهاتٍ وارتكاساتٍ خاصّةً بالمؤسّسة، تكوّنت عبر الزمن ومن تراكم الخبراتِ و التّجارب الإيجابيّة و السلبيّة، واستطاعت التشكّل بوصفها منظومةً متماسكةً، إنّها أشبه بسيرةٍ ذاتيّةٍ مليئةٍ بزخمٍ معنويٍّ، بعبارة أخرى: ثقافة المؤسّسة جملةُ معاييرٍٍ مميّزة ترخي بثقلها على أيٍّ وافدٍ جديدٍ إليها (مديراً كان أو عاملاً) وتجبره على تكييف تصرّفاته ونظرته وخبراته وخياراته وعلاقاته وفق مقتضياتها مسايرةً لها للاستفادة منها وتجنّباً لجزاءاتها إن هو عارضها.
وإليك أمثلةً عن بعض الجوانب في الممارسة الإداريّة داخل المؤسّسة المنتجة لثقافتها الخاصّة:
ـ لجهة تحديد الأهداف: يعتبر البعض أنّ المؤسّسة ليست سوى نظاماً للأهداف المتعايشة، أهدافٌ للعاملين وأهدافٌ للمديرين وأهدافٌ للمجتمع، ومُحدّدُ هذه الأهداف هو أولويّات كلّ طرفٍ المصاغة وفق أطر وبأدواتٍ ثقافيّة تميّز صاحب الهدف إضافةً إلى وضعيّته الاجتماعيّة و الاقتصاديّة.
أهدافُ عاملٍ متعلّمٍ غير قرينتها عند الجاهل، و الأهمّيّة المعطاة لمكوّناتِ الهدف تُعَيّنُها شخصيّة الفرد ومعتقداته وقيمه، و الطّموح قيمةٌ فكريّةٌ حاكمةٌ ومحفّزةٌ للسلوك، والمدير الذي يتبنّى قيم الفساد تكون أولويّاتُ أهدافه مختلفةً عن مديرٍ لا يتبنّى تلك القيم.. وزِدْ ما شئت من أمثلةٍ تراها في مؤسّستك عن دور الثّقافة في تحديد أهداف زملائك رؤسائك أو مرؤوسيك.
ـ لجهة التّنسيق: وظيفة التّنسيق خطيرةٌ وحيويّةٌ لدورها في دمج البنى المختلفة (مهنيّاً وثقافيّاً) في مسار تحقيق الهدف، وتمارس الأبعاد الثقافيّة لمجموعاتِ العمل و الأفرادِ و المديرين دوراً حاسماً في تشجيع وتثبيط وتثمير جهود التّنسيق، ومن هذه المؤثّراتِ يمكن أن نذكر: قيم التّعاون و العمل الجماعيِّ، الفاصل الرتبويُّ، الإيمان بالمشاركة، اختلاف اللهجاتِ وأثره في الاتّصال بين مختلف المستوياتِ، نبرة الصّوت، طرق إدارة الاجتماعاتِ ومخاطبة الحاضرين، الصّبر، الحنكة، عادات ودرجة السريّة وحجب المعلوماتِ، الاستماع الجيّد، النظرة للوسائل التقنيّة الحديثة في الاتّصالاتِ وتبادل المعلوماتِ(انترنت ـ شبكات داخليّة)...الخ.
ـ لجهة السّلطة: انظرْ إلى عاملٍ من أصلٍ عشائري كيف يماهي شخص مديره بشيخ عشيرته، وإلى موظّفةٍ ترى في رئيسها صورة والدها أو والدتها، والْحظِ الفارقَ في فهم السّلطة وممارستها بين من يعتقد بأنّها امتدادٌ لشخصه وعائلته وقبيلته وبين من يراها في حيّزها القانونيّ، وهل تتصوّر أنْ ينجح ساركوزي بقيادة الهند، أو أنْ ينجح أحمدي نجاد بقيادة ألمانيا؟.
فالخلفيّاتُ الثّقافيّة وحضورها في شخصيّة الفرد تحدّد فهم السّلطة وآليّات وأهداف استخدامها و مدى قبول المرؤوسين بالخضوع لها.
ـ لجهة التّنظيم: تزيد التحوّلات الثقافيّة من الأهميّة النسبيّة لبعض البنى التنظيميّة مثل البنى المسؤولة عن الرّقابة ونقل الشكاوى والتّحسين لنوعيّة المنتج، وكذا بنى تحسين شروط العمل الماديّة (حرارة ـ تهوية) و الحفاظ على الصّحّة و السلامة المهنيّة.
أتعلمُ أنّه في بعض البلدان أصبح سُبّةً ومثاراً للسخرية وجود قسمٍ يسمى الذاتيّة أو شؤون العاملين؟ لأنّ هذا المصطلح أصبحَ في ثقافتهم الإداريّة دليل تأخّرٍ علميٍّ وتخلّفٍ حضاريٍّ ويعكس احتقاراً للخصائص الإنسانيّة للبشر، و السبب عائدٌ للتحوّلاتِ الاجتماعيّة ـ الثقافيّة التي أصابت هذه المجتمعات وتمخّضت عن استبدال مفهوم إدارة الأفراد بمفهوم إدارة الموارد البشريّة الذي تصطفُّ خلفه مؤسّساتٌ و بنىً تشريعيّةٌ وقيميّةٌ وتراكمٌ معرفيٌّ والتزاماتٌ متعدّدةُ الأوجه من مختلف المستوياتِ السّياسيّة و الاجتماعيّة وتغيّراتٌ في أساليب الإدارة وطرق ممارستها شيّدتها كلّها ثورةٌ ثقافيّةٌ أخذت تنظر للإنسان باعتباره هدفاً أعلى وقيمةً مثلى بدلاً من النّظرة السابقة التي كانت تراه وسيلةَ إنتاجٍ فحسب.
وفي مختلف جوانب الوظيفة التنظيميّة كدرجة المركزيّة و اللامركزيّة والتّفويضات والصلاحيّات والمجموعات غير الرسميّة و أسس التّرقية وإسناد الوظائف وثقل المواصفات الثّقافيّة فيها..إلخ تستطيع أن تُقابل كلّ منظومة قيمٍ و أساليبَ عيشٍ و تقاليدَ و معتقداتٍ و اتجاهاتٍ بتأثيراتها في سلوك المرؤوسين و الرّؤساء لترى كيف تتحدّد تلك الوظائف التنظيميّة بالمركّب الثقافيّ الذي تنتمي إليه مجموعاتُ العمل في المؤسّسة.
في زمننا أصبح واضحاً أنّ التّغيّر شاملٌ لجميع الأطراف (المؤسّسة ـ بيئتها ـ الحكومات ـ العامل ـ المدير) وعميقٌ طال جوانب الوجود الاجتماعيّ كافّة، وعرّت التبدّلات القيميّة وتمكّنها من شخصيّة الإنسان المعاصر الممارسة الإداريّة من برقعها الماديّ، وأظهرت عَوَزَها للاقتراب أكثر من الإنسان، ونسجت علاقاتٍ جديدةً مع الآداب و الفنون، بعد أن أصبح البشر في وقتنا غير ما كانوا عليه قبل حفنةٍ صغيرةٍ من السنين، فهم أكثر ثقافةً و وعياً بذا تهم وخصائصها الحضاريّة ـ الثقافيّة، و أكثر درايةً بإنسانيّتهم ومتطلّباتها، ولم تعد مطالبهم مقتصرةً على تحسين شروط العمل الفيزيائيّة، واتسع نطاق نضالاتهم ليشمل إضافةً إلى مطلب زيادة الأجور و الحوافز الماديّة مطالب الإدراج المتزايد لخصائصهم الثقافيّة ـ الحضاريّة في أساليب العمل و الإدارة.
ألستَ معي في أنّ أسلوب وطرق إدارة عاملٍ في القرن التاسع عشر تختلف عن أسلوب إدارة عاملٍ في العصر الحاليّ؟ فالأوّل كان يمضي جُلَّ وقته في العمل، وعلاقاتهُ الاجتماعيّةُ ومُثُلُهُ الفكريّةُ ومعتقداتُهُ المستمدّةُ من واقعه محكومةٌ بتخلّف سبل و أدواتِ تطويرها وبمحدوديّة الوسائل التي يملكها للسموِّ بملكاته، أمّا العامل في وقتنا (حتّى الأمّيّ) فتراه مشاهداً للفضائيّاتِ، حاملاً لهاتفه الخلويّ، منخرطاً (بنسبٍ متفاوتةٍ) بمخاضاتِ مجتمعه، صاحبَ رأيٍ ولا يقبل أن يُعامَل معاملة الآلة، هذا عدا عن قدرته على إيصال صوته عبر نقابته أو وسائل الإعلام المعاصرة، وهو يستطيع اليوم أن يصل إلى أرقى ما أنتجه الإبداع الإنسانيُّ مسرحاً وشعراً وموسيقا ودراما بضغطة زرٍّ وهو في منزله، دون الحاجة إلى دفع ثمن الحصول على هذه الخدماتِ الثقافيّة من ماله أو وقته.
وكلّ ذلك تمّ بفضل التّحوّل الثقافيّ الذي أصاب المجتمعاتِ، والمتجسّد بظهور معاييرَ اجتماعيّة وفكريّة وقيميّة جديدة فرضت جبروتها ومنطقها وآليّاتها على علاقاتِ العمل، وقلبتْ وغيّرت الكثير من العاداتِ و العلاقاتِ بين البشر رؤساء ومرؤوسين، وفي هذا الخضمِّ من التغيّرات أضحت محاولة فرز الأسباب عن النّتائج جهداً ضائعاً، فالتغيّرات الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة ـ التقنيّة تكون في ذاتِ اللحظة سبباً ونتيجةً لترجماتها الثقافيّة التي تنوّعت مظاهرها و مصادرها: من تبدّلٍ في أساليب النّظم السياسيّة والحكم، وتعميقٍ لدور البرلماناتِ وأجهزة الرّقابة في مراقبة أعمال الحكوماتِ و المديرين، وظهورِ ما سمّي السّلطة الرّابعة (الصّحافة)، و تعاظمِ نفوذ قيم المساواة و الحريّة في شخصيّة الإنسان المعاصر، و تزايدِ دور النّقاباتِ و المنظّمات و الجمعيّاتِ وسائر البنى غير الحكوميّة، وتطوّر التّشريعاتِ، و تراكم إنجازاتِ نضال النّقاباتِ، والحماية التي وفّرتها قوانين العمل و التأميناتِ الاجتماعيّة عند التقاعد أو الإصابة، و المكانة المتزايدة لدور المرأة في المجتمع عامّةً وفي علاقاتِ العمل خاصّةً، وأسس تشغيل الأحداث و منع استغلال الأطفال، و تحريم التّفرقة العنصريّة، ومنع الإتجار بالبشر....الخ.
فأنت الآن لو شَغّلْتَ طفلاً، أو جُرْتَ على إمرأةٍ في العمل، أو ظَلَمْتَ أسوداً للون بشرته، أو تقاعسْتَ في تهوية أو تدفئة مؤسّستك، أو أخّرْتَ دفع الأجور، ولم تمنحِ العاملين إجازاتهم (الملزمة قانوناً)، وإن لم تُسجّلهم في التأميناتِ الاجتماعيّة، فسوف تقوم الدنيا عليك ولن تقعد قبل أن ترعوي وترضخَ لمتطلّباتِ المعايير الجديدة في العمل (وهي مكوّن ثقافيٌّ)، ولسوف تُلاحَقُ من قبل وزارة الشّؤون الاجتماعيّة و العمل و القضاء و الصّحافة و أجهزة الرّقابة و النّقابة التي يتبع لها العامل و الاتحاد النّسائيُّ إن كان المظلوم امرأةً، ومن مجموعةٍ لا حصر لها من المؤسّسات الساهرة على حُسن التزامك بالمعايير الجديدة التي أوجدَها التحوّلُ الثّقافيّ في سوق العمل.
ولهذا تكون مطالباً في كلّ لحظةٍ بالتأقلم مع التغيّرات التي تصيب هذه المعايير فأنت لا تستطيع ـ دون أن تنال جزاءً ـ تجاهل قانونٍ صدر أو عرفٍ كرّسته الممارسة أو معتقداً مسيطراً أو قيمةً محرّكةً للسلوك أو انتماءً روحيّاً يملك أفئدة العاملين لديك ورؤسائك وزُبُنك ومورّديك ومراقبيك.
وربّما يكون أكبر حافزٍ لعاملةٍ لديك توفير روضةٍ لابنها، ولعلّ سبب التّراجع في أداء البعض هو لون الجدران أو موسيقا غير محبّبة تصدح من مكانٍ ما، وقد يهدر الكثيرون من وقت العمل تحدّثاً في هواتفهم المحمولة أو تصفّحاً للإنترنت، وقد يفقد موظّفٌ تركيزه ومثابرته لوفاة مرجعيّةٍ ثقافيّةٍ له (شيخٌ ـ فنانٌ ).
و إن شئْتَ التّفصيل في كلّ دقائق وحيثيّاتِ العمل اليوميّ للإداراتِ لأيْقنتَ أنّ مكانة الخصائص الثقافيّة في السلوك الإداريّ للبشر كمكانة الريح للغيوم، ودورها كدور الجاذبيّة في منع تطاير الموجوداتِ، وهي كالأم التي تلد طفلةً لا تلبث أن تصير هي الأخرى أمّاً.
الخاتمة :
من الطّريف ما رواه لي صديقٌ مختصٌّ بعلم الإدارة حين أنجز دراسةً لتطوير عمل مؤسّسته واستبشر حسن اللقاء وجزيل الثّناء على جهده من مديره (غير المختصّ بعلم الإدارة)، فكانت العاقبة عكس ما أمل، إذ قُرِّعَ على (فعلته) دون أن يقرأ ذاك المدير أو يرى ما سطّرته أفكارُ صديقي المتحمّس للتطوير بسبب مُكنةِ قيم الإلغاء و التّسرع و طباع العجرفة و التّعالي وعادة الاعتداء على اختصاص الآخرين التي تملّكت ذاك المدير، وبعد أن أنهى صديقي كلامه خاطبته:
قالوا: اقترفتَ دراسةً وعقابها         ذمٌّ وتوبيخٌ وتحقيـرُ العمــلْ
أليس التعبير شعراً عن واقعٍ إداريٍّ مقاربةٌ ثقافيّةٌ ؟
تمّت
 
hsl.mahmoud@gmail.com
النشر الورقي: مجلة المعرفة العدد /555/ كانون أول 2009
المراجع و الهوامش:
1ـ مجلة المعرفة ـ العدد 512 ـ أيار 2006ـ ص 9.
2ـ د. يونس حيدر ـ الإدارة الاستراتيجيّة للمؤسّسات و الشركات ـ دار الرضا للنشر ـ 1999ـ ص 125.
3ـ د. محمد مرعي ـ أسس إدارة الموارد البشريّة ـ دار الرضا للنشر ـ 1999 ـ ص 19.
4ـ نفس المرجع السابق ص 352.
5ـ نفس المرجع السابق ـ ص 353.
6ـ نفس المرجع السابق ـ ص 353.
7ـ نفس المرجع السابق ـ ص 359 .
8ـ نفس المرجع السابق ـ ص 360.
9ـ نفس المرجع السابق ـ ص 360.
10ـ"من خلال دراسة الارتباط بين سلم الفاصل الرتبوي وسلم الروح الفرديّة باعتبارهما بعدين ثقافيين في الإدارة، ظهر أنّ درجة التبعيّة العاطفيّة للأفراد الذين يستأثرون بالسلطة تزداد كلما ازداد الفاصل الرتبوي وتنقص بنقصانه، وكذا هي العلاقة بين الروح الفرديّة ودرجة تبعيّة الأفراد حيال الجماعات و المؤسّسات و التنظيمات التي ينتمون إليها.
وتم تقسيم البلدان اعتماداً على هذا المقياس الثنائي إلى أربع مجموعات هي:
1ـ بلدان ذات فاصل رتبوي كبير مع عقليّة فرديّة: وتشمل فرنسا و البلدان اللاتينيّة الأوربيّة (إيطاليا ،إسبانيا، بلجيكا، جنوب إفريقيا) وأسلوب القيادة فيها  أبوي يضع حاجزاً مع الفرديّة الحماسيّة للمرؤوسين.
2ـ فاصل رتبوي متوسط مع عقليّة فرديّة: البلدان الأنكلوساكسونيّة (الولايات المتحدة ، بريطانيا، أستراليا، كندا، هولندا، نيوزيلاندا )وأسلوب القيادة فيها استشاري وتأتي مبادرة استشارة القاعدة فيه من الرئيس.
3ـ فاصل رتبوي ضعيف مع فرديّة متوسطة:يغطي البلدان الجرمانيّة و الاسكندنافيّة وروسيا (ألمانيا، سويسرا، السويد، النرويج، إيرلندا، الدانمارك، فنلندا، النمسا، فلسطين المحتلة) هو أسلوب تشاركي أو ديمقراطي.
4ـ فاصل رتبوي كبير مع عقليّة جمعيّة (انعدام العقليّة الفرديّة):البلدان العربيّة، تركيا، إيران، اليابان، أمريكا اللاتينيّة، يوغوسلافيا.".(12).نلاحظ أنّ البلدان ذات الفاصل الرتبوي الكبير و العقليّة الجمعيّة بمجملها هي دول نامية باستثناء اليابان، وهذا يعود إلى قدرة اليابانيين على تكييف ثقافتهم مع متطلبات النهوض بالاقتصاد و المجتمع إذ "... يتكوّن الاستدلال الثقافيّ المثالي من إعداد تركيبة ثقافيّة جديدة تحفظ القيم المحليّة القديمة و العناصر المعتبرة أساسيّة وتسمح لهذه التقانات الجديدة بالسير.ربما يكون البلد الذي نجح بشكل أفضل من غيره في هذا الخط هو اليابان" (13).
لمزيد من التفصيل انظر: كتاب الفروق الثقافيّة بين الأمم في إدارة الأعمال ـ ترجمة د. محمد مرعي ـ دار طلاس للنشرـ دمشق 1993.
11ـ د.طاهر رجب قدار ـ المدخل إلى إدارة الجودة الشاملة وiso 9000 ـ دار الحصاد ـ 1998 ـ ص 54.
12ـ أسس إدارة الموارد البشرية ـ مرجع سبق ذكره ـ ص 362.
13ـ أسس إدارة الموارد البشرية ـ مرجع سبق ذكره ـ ص 359.
جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024