الخميس 2015-03-05 20:01:24 كــتب
نجاح العطار في حديث الشعر: دم الشاعر صوت الله بين البشر

للإبداع سر لا يعرفه إلا من كان محلقا في عوالمه، وقد غاص كاشفا أسراره مبحرا في كل ثناياه، لم يترك شاردة أو واردة إلا وقد تفحصها يقينا، وتذوقا وعطاء، فإذا به في عالم الإبداع ابعد من إبداع ومن قراءته للمشهد الإبداعي يعيد بعثا جديدا لكل ما كان، لا يقرأ الشعر العظيم جمالا ودلالة وتذوقا إلا ناقد عظيم بحجم من كتب،
وليس عبثا ان قيل إن وجود الشاعر العظيم يستدعي وجود ناقد من طرازه، على هذا الأساس يجب أن نقف عند القراءات النقدية الهامة التي تصدر بين الحين والأخر لتدلل على مواطن الجمال ولتثري عبق الإبداع الشعري لشعراء هم الصف الأول في الإبداع العربي، حجزوا مكانا بن النجوم، وسيبقون كذلك، ربما يأتي آخرون ليحجزوا قربهم أماكن لكنهم، لم ولن ينافسوهم لأنهم وإياهم في صف واحد ولكل مبدع مذاقه ولونه، وله عبقه وعبقريته.‏ 
في هذا الإطار يأتي كتاب السيدة الدكتورة نجاح العطار (من حديث الشعر) الصادر حديثا عن الهيئة العامة للكتاب، والإبحار في الكتاب رحلة تذوق وتمعن تثريك بكل ما هو متوهج ومتقد، وكأنك تقرأ الشاعر من ديوانه، وفي حياته، في همسه وحركاته، وتلمس دفء الحرف الذي إبداع، ونقاء الصورة الشعرية التي سمت إلى مصاف عليا، وجاءت الكلمة النقدية تضاهيها، لا بل ربما تفتح أفاقا أكثر دلالة بالمعنى والخيال المجنح، كتاب من حديث الشعر، لا يقرا ولا يوجز في مقال سريع أبدا، إنما هو دفقه إبداعية أتت لتكون متماسكة بكل ما فيها، ومن هنا نرى أن ضرورة الإبحار فيه يجب ان تكون دفعة واحدة، ولكنها الضرورة الصحفية تدفعنا لان نوجز، ونحن نؤمن ان تقديم الكتاب بهذا الشكل كمن يذبح بلبلا جميلا من اجل بضع غرامات من اللحم، تاركا بهاء المنظر، وحسن الصوت، وروعة الألفة.‏

ماذا يقول الشعر وكيف يقول؟‏
هي مقدمة للكتاب لكنها حقيقة، ابعد من ذلك بكل تأكيد، لأنها تختصر وتنهي جدلا طال أمده هنا في هذا الشرق الذي يتعلق بكل صرعة تأتيه من الغرب. أسئلة كثيرة طرحت ذات يوم ودارت على ألسنة الكتاب والنقاد كلها تصب في ماهية الشعر وغموضه ودلالاته، والسؤال الملح الذي أتى بلا أي مسوغ: هل الأديب ملتزم أم ملزم، وما دور الأدب، وهل للأدب رسالة وما هي هذه الرسالة، وكيف يمارسها المبدع والى أين تقوده وتفضي به، ؟ أسئلة ستجد إجابة شافية وافية مختصرة عليها في مقدمة الكتاب لأنها، خلاصة رأي أديبة وناقدة ومفكرة تجذرت في عالم النقد والكلمة والتواصل.‏
الوطن أولاً‏
تقول العطار في إطار حديثها عن الغموض في الشعر والحديث عن دور الإبداع في نهضة الأمم والشعوب: وكي يقوم الأدب والشعر خاصة بمثل هذا الدور، في التوعية والتحريض، لابد أن يكون مفهوما من الذين يتوجه إليهم في الأصل، ومن هذا المنطلق، فان الخلاص في الشعر لا يتم إلا إذا كان الشعر أداة خلاص، وإلا كان حسب تعبير بول ايلوار قادرا على منح الرؤية للناس.وتضيف العطار قائلة: لقد قال نيرودا: أنا شاعر لأنني استوحي الوطن والشعب لأنني اعبّر عن الحقيقة الوطنية، والمطامح الشعبية، وجميع ما يعتمل في هذه المطامح، وغيرها من نضال وإخفاق، ومن أمل ويأس وثورة وكان الذين يتوجه إليهم نيرودا يفهمونه ويحبونه كما نفهمه نحن ونحبه.‏
روض الكلام في إبداع الشعراء‏
أجد من المناسب ان أقدم باقة صغيرة من روض ما كتبته العطار حول كل شاعر اذ ان المجال ل لا يتسع لعرض ما في الروض كله.‏
خير الدين الزركلي.. ضيع بلاده وضيعته‏
تقول العطار: أضاعته بلاده وأضاعها، وخسرته شاعرا، خسرها شعرا، تخلدت من حياته فترة التطلع والنضال، كل شيء له ثمن، وربما كان اثمن ما يجنيه الشاعر في انكسار الأنانية وعظم التضحية أغان تتخلد وتكون الطموح والزهو.‏
وصفي القرنفلي.. موجز معجز‏
كان هو نفسه رؤيا, وبالصورة الموجزة الفياضة والايماءة البعيدة كان يشف شعرا، يوحي أكثر مما يقول ويلهب بالنار سيالات الشعور ويختلف في ذلك قوة وضعفا، وحنانا وتصلبا، وحبا أو تدميرا، ولكنه يظل باستمرار موجزا معجزا.‏
بدوي الجبل.. من حاور السماء كيف تحاوره الأرض ؟‏
إن دنياه هي دنيا الشعر، به تزدان، لا بالمال أو الملك، او الجاه أو المنصب، وهذا الشعر، مصفى، وكان البدوي كبيرا في تصفيته، من الحشو واللغو والسقط والشطح والهنات، مهما صغرت وإذا كان بعض معانيه يتكرر فهو تكرار مقصود للترسيخ، وهو محبب كما بعض الكلمات إلى قلبه ليظل التأنق في الديباجة همه ووسواسه، وهو كما تقول أيضا (في عرسك الشعري تحية ورحمة، عذرا فالهامش ضاق، لأنك في دنياك الشعرية كنت اكبر من الهوامش والمتون جميعا، وكنت في غالبتك أزكى العطور، وفي غنائك اطرب النغمات، وما نحن وأنت إلا كالسماء والأرض، ومن حاور السماء كيف تحاوره الأرض ؟).‏
الجواهري.. في صدره روح نبوءة‏
وحين ترثي الجواهري وهو من هو في الشعر والصداقة وعلاقة الإبداع يصل الأمر إلى ذروة لايمكن ان تختزل منها شيئا ولكن لابد من العطر ولو قليلا: أن يموت الشاعر، فذلك حدث جلل ولكن ان يموت شاعر الشعراء فذلك الجلل الأكبر، والأعظم والأضخم وذلك في فراغ المكان والزمان وفراغ الكون وهو الأخطر بلا قياس فقد كان يكفي ان يقال محمد مهدي الجواهري، حتى يقال هذا هو الرجل الذي في كفيه نار، وفي إحداقه شرر وفي صوته الجهوري انذرا، وفي صدره روح نبوءة.‏
سليمان العيسى.. شجرة لن تهرم‏
ومع أن الشجرة العربية لم تهرم ولن تهرم، وحتى في موتها ستظل واقفة ككل اشجار هذا العالم، فانك كيف ماالتفت في السنوات الأخيرة الىشتلات يانعة في دوحنا هم أطفالنا، أكبادنا مستقبلنا الوضاء وخصصتهم بشعرك بعضه في نوع من الحب الأبوي وفي براءة يملكها الشاعر وحده، لأنه في الطفولة يبقى وفي حرص سلامتهم يسهر.‏
معين بسيسو.. في صوته صوت أعلى‏
دم الشاعر صوت الله في الناس أفيقوا: من هنا فهو ولادة و يفاعة وكهولة، مقاتل في صوته صوت أعلى، ودوره في رحلة العمر أن يقاتل، لأنه مكتوب ان القتال للقضية يكون أو لايكون وشاعر بلا قضية، لا شاعر يرتفع إلى مقام النبوة أو يهبط الى بؤرة التهريج.‏
وبعد هذه باقة متناثرة من عبق ما في الكتاب والكثير الكثير من نور الكلمة وسناها سيجده القارئ حين يفتح صفحاته، لكنه الاختصار وضيق المساحة، وما عليك إلا أن تبحر في عالم الشعر والشعراء لتسأل، أين شعراء اليوم، أين نقادنا أين وأين وألف لاين ؟‏

جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024