الأربعاء 2014-12-03 16:37:50 اخترنـــا لكـــم
لآخر مرة ... نمضي مع العقل الشاعر...سعيد عقل
الكلمة التي ألقتها الأديبة كوليت الخوري في عيد ميلاد سعيد عقل المئة
لآخر مرة ... نمضي مع العقل الشاعر...سعيد عقل وصفحة من ذاكرتي عن سورية

السيدات... السادة الأصدقاء.. الأحبّاء أيها الحضور الكريم سلام على الجميع ومن كوليت الخوري سورية سلام على الحبيب الكبير سعيد عقل لبنان ... وأيضاً

 
في هذه المرحلة الصعبة العصيبة التي عشناها ونعيشها...
مرّ بي الزمن
طاوياً في أيامه صفحاتٍ من عمري
صفحات.. تبدّلت فيها المفاهيم
تّدهورت فيها المبادئ
تلوّنت فيها الأجواء..
صفحات..
خسرتُ فيها أحلاماً
دفنت فيها آمالاً
ودّعت فيها أحبّاء...
في كلّ يوم..
في كلّ صفحة...
كنت أحيا مرّة.. وألف ألف مرّة أموت..
لكنني على الدوام..
ورغم مرارة الأيام
رغم خيبتي.. ووجعي.. وعتبي المكبوت
كنتُ على الدوام
أتشوّق المجيء إلى هنا.. فقط لأقول
سلام عليكِ يا بيروت...
عندما خابرني الصديق الشاعر العزيز
جورج شكّور
وأخبرني أنّ اللجنة المُكلّفة من الجامعة
شرّفتني واختارتني لأتحدّث عن سعيد عقل
في عيد ميلاده المائة
كانت ردّةُ فعلي الأولى أنّي جفِلت...
ففي هذه المرحلة المشوّهة
هربت منّي كلماتي.. وانزوت
خوفاً من عدوى التشويه!
ثمّ إنّ الحديث عن سعيد عقل
هو حديث عن عالمٍ يفيض معرفةً
ويتألق نُبلاً
ويسمو بالإيمان...
هو حديثٌ
عن دنيا طافحةٍ
بالحبّ والشعرِ والجمال...
أين نحن اليوم من هذا العالم البديع..؟
■ ■ ■ ■ 
والحقيقة.. هي أنني جفلت..
وانكمشتُ على نفسي..
لأنّي خفتُ!
خفتُ على قلمي الذي لقّبه سعيد عقل
ذات يوم بعيد بالقلم الضوئيّ..
خفتُ أن يخفُت ضوؤه في حضرة هذا الكيان
المُتوهّج.. إبداعاً وفكراً وسَناء...
هذا الكيان الذي اختلط عندي
بوطني الثاني
فصرتُ إذا ما سمعتُ سعيد عقل
أو قرأته
عانقتُ لبنان..
لبنان الواحد.. لبنان العظيم..
واذا ما ذكر لبنان
في أيّ مجال من المجالات
ومن أيّة زاوية
فتحتُ ذراعيّ..
وسعَ الدنيا...
لسعيد عقل
■ ■ ■ ■ 
عاتبني العزيز جورج:
تعتذرين عن المشاركة؟
كيف؟
وأنت حبيبة سعيد عقل
الأولى والأخيرة!!!
هذه الجملة أيّها الحضور الكريم
سيداتي..
هذه الجملة الهاربة من خيال شاعر..
هي الشرارة التي ألهبت خيالي أنا.. فشطح
في لمحةٍ شعريّة لمعت كالنيزك..
وفرضت نفسها
مقدمةً خياليّة..
لصفحة واقعية مختصرة جداً
هي صفحة من ذاكرتي
أحدثكم فيها
عن واقع معرفتي
بسعيد عقل...
■ ■ ■ ■ 
لا!
أنا لست حبيبة سعيد عقل الأولى
ولا الأخيرة...
أنا لست حبيبته أصلاً...
أنا أهمُّ من هذا عند سعيد عقل 
أنا الخلفيّة الأنثوية العريقة... لكلّ حبٍّ
عاشه سعيد عقل في حياته...
أنا الشام...
أنا... تلك التي غزلها سعيد عقل بحروفه
جنّةً على أجنح الطير
وغازلها بأشعاره... مدينةً امرأةً ملكة
توّجها الحب والعز والخير...
أنا الشام...
تَدفاقُ بردى، سُندس الغوطة
شذى الوَردْ...
أنا اللحاظ الشاميةُ نبعُ الهوى
أنا السيف الدمشقيّ... أنا المجد...
بوابة التاريخ أنا...
والسكبُ عندما الشرق يظمأ...
وعلى مر العصور
أنا الأميرة المغلّلة بالنار
والصامدة في وجه الطامعين
وعلى مرّ العصور...
ماضياً حاضراً أبداً...
أنا الأميرة المكللة بالغار
رغم لهاث الحاسدين الحاقدين...
شامةُ الدنيا أنا!
ويريدون تلوينَها بالجراح
لكنّ الجميع يعرف!
وسعيد عقل يقول:
إنني على الدوام ورغم الدنيا
تلك التي ينهمر منها الصباح... والسماح...
حبيبة سعيد عقل الحقيقية...
شامي أنا!
«شامي التي وحدها... للعود أنغام...»
وعليه...
أنا الحبيبة... إنْ يُعجبْكَ بي نسبٌ
كما يقول نزار قباني...
«... إن يُعجبْكَ بي نَسَبٌ
فأمي الشام أعطتْني العُلا نَسَبا...»
■ ■ ■ ■ 
 
عندما سألوا نزار: مَنْ برأيكَ لإمارة الشعر
في البلاد العربية؟
قال على الفور:
«إمارةُ الشعر لسعيد عقل دون منازع
هذا إن تنازل سعيد ورضي بها...»
هذا ما قاله نزار...
وما أكثر ما قيل وما سيقال
حول هذه الشخصية المتميزة...
متعددة الجوانب
متنوعة المواهب
جامحةِ العطاء...
حول هذا الوجود الإنساني الراسخ
رسوخَ جبل لبنان...
أما أنا..
فسعيد عقل بالنسبة إليّ
هو هذا الشاعر الوسيم الذي استطاع
منذ اللحظة الأولى التي قابلته فيها
ذات يوم بعيد بعيد...
استطاع أن يترك بصمته فوّاحةً
في سجل حياتي...
كما العطر في ياسمينِ دمشق..
■ ■ ■ ■ 
منذ اللحظة الأولى...
وأعود معكم إلى ذاك اللقاء البعيد في أواسط الخمسينات...
تلك الصفحةُ الواقعية من ذاكرتي... أنا أذكرها
جيداً جيداً...
فهي مرسومةٌ في خاطري
محفورة في ظنّي...
وبقدر ما هي بعيدةٌ عن حاضري
بقدر ما هي قريبةٌ مني...
أواسط الخمسينات...
ها هو البيت الواسع العريق الذي قضيتُ 
فيه معظم طفولتي...
الكتب تغطّي الجدران...
الحواراتُ السياسية
والنقاشات الفكرية
والمساجلات الشعرية
تتمازج
وتتجول في الأجواء...
بيتٌ واسع مفتوح لأهل العلم والسياسة
والأدب...
للأحباء والأشقاء والمحتاجين...
وهذه أنا...!
فتاة مرهفةٌ على عتبة الصبا....
تحلم بالحبّ والشعر والمجد...
صبية صغيرة تسرح في البيت الكبير
وتتجه صوب غرفة المكتبة الواسعة لتسلم 
كالعادة على ضيوف جدها... فارس الخوري
أحد رجالات سورية والعرب...
■ ■ ■ ■ 
إلهي...
كم يبعد الماضي عن الحاضر...
حين يكون الفاصل هوَّة سحيقة
ينقلب فيها كل شيء... كل شيء
وقفتُ عند باب المكتبة في ذاك اليوم البعيد
أستطلع من في الداخل...
بدا لي جدّي الفارس مبتسماً راضياً سعيداً...
وكان معه رجل وسيم... بهي الطلة
صافي النظرة، صادقُ التعبير، تبدو غُرته
المحلقة في الفضاء وكأنها تريد التأكيد على
رحابة الجبين العالي...
كان هذا الرجل يتحرك ويتحدث بحماسة
وحرارة وإيمان
وسمعته يقول للفارس إنه يريد أن
«يُعَمْلِقَ لُبنان...»!!!
هذه أول عبارة أسمعها بصوت سعيد عقل
وكانت جديدة عليّ...!
كنت أحب الشعر وأعشق اللغة العربية
أما أن يصبح أي اسم في اللغة فعلاً وأن نستعمل هذا الفعل حين نتحدث عن بلد ما...!
«أن نعملق بلداً ما؟»؟!
أطربتني العبارة... وشعرتُ بمتعةِ وتسلية
فخطوت خطوة داخل الغرفة... وتمهلت!
لمحني الزائر الوسيم فقطع حديثه.
قال له جدي:
■ هذه حفيدتي... وهي تحب الشعر...
انتظرتُ أن يبتسم لي هذا الزائر المختلف
عن غيره...
أو أن يقول أي كلمة تشعرني بأنه تنبّه
لوجود هذه الصبية الصغيرة...
لكنه ظلّ يتأملني... ثمّ... وكأنه كان ينتظر
أن أقتربَ منه، عقد حاجبيه... وقال فجأةً
بلهجته الزحلاوية:
■ تْعَايْ وَلهْ يَا بشعَة!
ضحكتُ...
ففي تلك اللحظة
شعرت بأني أجمل صبايا العالم...!
■ ■ ■ ■ 
تحت هذا اللقاء العنوان
تندرج جميعُ لقاءاتنا... سعيد عقل وأنا...
كان سعيد عقل يحب فارس الخوري...
وكان يزوره على الدوام...
في دمشق... ليطمئنّ عنه...
كذلك أنا... كنت أحب سعيد عقل
وكنت أزوره على الدوام في لبنان
إنما لأطمئن عن نفسي... وأنا هنا...
فمجرد وجود الكبير سعيد عقل في لبنان
كان يُشعرني بأمان!
■ ■ ■ ■ 
ومع أنها متباعدة... تلك اللقاءات 
التي جمعتني بهذا الحبيب...
■ وكم أتمنى أن تسمح لي الظروف بأن أذكرها
مفصلة في كتاب... فهي جديرة بأن تتحرر
من ذاكرتي وتخرج إلى الناس-
مع أنها متباعدة... إلا أنها في أحاسيسي 
وفي نظر الآخرين والمقربين كانت متواصلة...
ذلك لأن سعيد عقل بالنسبة إلي هو
من هؤلاء الأشخاص الذين يسكنون حياتنا،
يصبحون جزءاً منها دون أن يشاركونا يومياتنا...
... نلتقي بهم بين الحين والحين فتغمرنا الفرحة
لكننا نواصل أحاديثنا وكأنها لم تنقطع يوماً...
فنحن نعرف أنهم دائماً معنا... حتى لو لم نجتمع بهم!
هم الجزء الثابت في حياتنا... هم الركن الدافئ
في وجودنا...
هم الأهل الضمان...
هم الأسرة العشيرة... هم الوطن الغالي...
أيها الحضور الكريم
أيها الأحباء
عظمة البلد تكون بكنوزها البشرية
■ الأدبية الفكرية الفنية- وفي مقدمتها...
الكنوز الأخلاقية...
هذه الثروات الإنسانية والإبداعية
هي التي ترقى بالبلاد إلى المستوى اللائق
والمرموق...
أما الكنوز المادية...
والثروات المالية...
والذهب الأصفر والأخضر والأسود
والملون بأي لون...
فقد أثبتت لنا الأيام
بأن البلاد المتباهية بكنوزها المادية 
والمعتمدة عليها...
لا تعرف الحب
ولا تعترف بالمحبة
وهذا مؤسف فعلاً...
لأن الحب وحده قادر على البناء...
ولأن المحبة لا تسقط أبداً...
■ ■ ■ ■ 
وإذا كنت في مطلع الصبا، قد سمعتُ
سعيد عقل يقول لفارس الخوري
إنه يريد أن يُعملق لبنان...
فأنا اليوم... بعد هذا العمر الطويل...
الآن وقد كبرتُ وهرمت وخبرتُ الدنيا
الآن
استطيع أن أقول 
إن وجود سعيد عقل كافٍ وحده ليعملق أي بلد
في العالم وأستثني لبنان...
لأن لبنان عملاقٌ بحد ذاته
عملاق بأهله... بثقافته...
بحضارته... بطبيعته...
وسيبقى لبنان
على مدى الدهر عملاقاً...
لسبب هام للغاية
سيبقى لبنان عملاقاً
ما دام في البدء كان الكلمة
وما دام لبنان هو بين الله والأرض... كلام...
وعاش سعيد عقل أبداً...
 
 
الكلمة التي ألقتها الأديبة كوليت الخوري في عيد ميلاد سعيد عقل المئة على مسرح الاونيسكو ببيروت
جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024