الإثنين 2009-12-07 08:51:25 ســياحة وتــراث
في تشكيله الحروفي.. أكثم طلاّع يبحث في «كينونة» الحرف ليبني اللوحة
كما هو الحرف كائن، يُشكّل الكلمات والحروف والجمل، و.. يُصوتّها، كذلك هو كائن لمهمات جمالية أخرى، قد تكون أكثر جلاء، وإن ببلاغة مغايرة، وذلك بما تفيضُ به روح هذا الكائن، من خبايا يكتنزها في تفاصيل ليونته وقساوته.
د و.. في منحنيات الخطوط، في استقاماتها وانبساطاتها، في توزيع النقاط، إن كانت فوق الحروف أم تحتها، من جرس الحروف، ومن شكلها ووقع صوتها.. ‏
من «كينونة» هذا الكائن، يبني أكثم طلاّع عمارة لوحاته التشكيلية، التي يُقيم اليوم لبعضها معرضاً تشكيلياً، في صالة (الفري هاند) بدمشق..يستمدُّ معطياتها من حميمية ذاكرة تذهب صوب البعيد، إلى مكان قصي في الجولان (مكان الولادة)، يشعرُ تجاهه بالوجد، الأمر الذي انعكس جلياً في لوحته، سواء لجهة الاقتصاد في اللون الذي هو أقرب إلى غنى الصوفية (القليل– الكثير) أوفي حركية الحروف واتجاهها.. ‏
و.. لأنّ المكان يكمن في غياهب الفقد، كان هذا التأكيد على إعطاء الإحساس بالقدامة، والعتق، يسكبه على سطح اللوحة بتدريجات الأخضر الشاحب، والأصفر، والأحمر المحروق، ألوان كأنه يقبض عليها من زواريب ذاكرة مثقلة بتعب تأكيد حضور الغياب، حتى وإن سعى هذه المرة لإضفاء ألوان جديدة، كالأزرق والبنفسج، اللذين حضرا صراحةً، وهما اللذين كانا يأتيان مواربة، أو اختلاساً في لوحاتٍ سابقة، وإضافة التلاوين الجديدة، لم يقصد منه الإثراء اللوني، بقدر مايريد تقديم خطوة باتجاه انعطافة ما.. قد تكون قاب قوسين في تجربة يصرُّ فيها على أسلوبية له وحده.. يبتعدُ فيها إلى حدٍّ كبير من الحشو الزخرفي والتزييني، الذي غالباً ماتقع فيه اللوحة الحروفية..
نادراً ماتأخذ (حروف) طلاع فضاء اللوحة بكاملها، بل هو يصرُّ في معظمها، أن يركّزها في مقدمة اللوحة، ومن ثمّ يأتي فضاءها لإبراز هذه الكتلة، التي يبنيها هرمياً، بحيث تتسامى في فضاء واسع، الذي هو فضاء اللوحة، وهنا يُخيل لي أن طلاع ينشدُ شيئاً من التعادل مابين السكون والحركة، الفضاء الرحب الذي يُغوي بالحركة والسباحة، وبين الألوان المعتقة، والبناء الهرمي، الذي يعطي إحساساً بالسكون، ذلك أن الغنائية، أو التفجر اللوني والحركة القوية للحروف التي تشبه الزوبعة عند الكثير من الحروفيين، يستبدلها الفنان هنا بشيء من «الوقار» اللوني، والمهابة التي تمنحها ثخاتة الحروف وهرمية بناءها، تماماً كأننا أمام أثر لعمارة قديمة، أو في حلقة (مولوية)، في هذه الحركة المغزلية إلى الأعلى، وهذا مايراهن عليه أكثم، عندما يجرد لوحته من كل «أسلحتها» الزخرفية والتزينية.. ‏
و..إذا كان طلاع لم يسعَ لتكرار الحرف، ويشكّل من هذه الحركة تكوينات عمارته اللونية، بل سعى لتنويعات حروف ضمن الكتلة، التي يسود فيها «بطولة» لحرف ما، وإن كان حرف الجيم الأثير لنفس الفنان، الذي أخذ الحصة الأكبر من هذه البطولة، يكون خلالها الشخصية المحورية للوحة، فيما تكون بقية الحروف الأخرى كسنيدة، تُبرز قيادة هذا المايسترو للتنغيم اللوني البانورامي في اللوحة، مبتعداً قدر الإمكان عن التشخيص أو التجسيد، وإن كانت كتلة الحروف توحي بما يعادلها في الحياة، كقارب – ربما - أو هرم، أو ثورة من الأقلام.. ‏
وهون وإن لم يأخذ بمسألة التكرار الذي يوحي بالاستمرارية، فهو لم يفرط بموضعة الإيقاع، الذي يراه الكثير من النقاد التشكيليين أنه يقف في مقدمة الخصائص الجمالية في اللوحة الحروفية، فهو يشمل تناسق الأشكال من حيث علاقتها مع بعضها البعض، وتوزيع الأشكال الكتابية التي تنتج التكوين الشكلي مدمجاً الحركة في الشكل، يحققها طلاع من خلال عمل الأنساق الفاعلة في البنية الخطية، وذلك بالحروف الملفوفة وارتداداتها وامتداداتها الأفقية والعمودية، والرموز الكثيرة التي توحي بها هذه الإيقاعات.. ‏
إذاً.. من ليونة بعض الحروف وانسيابية بعضها الآخر، والالتواءات القاسية، وكذلك الاستقامات لحروف تالية، وكل مايُحيط بالكتلة وبحجم المساحة، استطاع أكثم أن يؤلف نظامه التشكيلي الجمالي متكئاً على روحانية الحروف، يشكل من جمالها البري والوحشي لتحمل إيقاعاً يعكس المضمون بتدرجات اللون العتيقة كتشكيل ودلالة وصولاً لحالة عالية من التوافق بين كل هذه التقنيات، ليصوغ منها لوحته البصرية.. فقد منحه فن الخط الذي هو «فن رسم الحروف بشكل جميل» إمكانية إيجاد شكل تعبيري بغض النظر عن إمكانية القراءة.
علي الراعي/تشرين/الاثنين 7 كانون الأول 2009
 
جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024