الخميس 2012-06-14 20:58:01 أدبيات
الإنسان واللغة في رواية طوق من مسد
أشرف محمود عكاشة: قاص وناقد مصري -عضو نادي القصة بأسيوط -والمركز العربي للدراسات الأدبية والفنية
رغم الطوق الذي يكبل شخوصه، يعمد البلكي إلى فك أسر الموروث الإنساني واللغوي، فليست مستويات الطرح الإبداعي للمورثات عند البلكي قاصرة على مفردة أو عدودة أو تركيب لغوي أبعده عنا تعاقب الأزمنة، بل يتمثل في بعث وإحياء هذا الموروث بدلالته التناصية، ويعزف على الموروث الإنساني للمجتمع تباريح الواقع المعاصر، فشخوصه صور متكررة بتعاقب الأجيال والأزمان، أجاد البلكي الغوص في أعماق البني النفسية لأبطال روايته، ليوهمك بأنك تعرفهم وتلقاهم في كل شارع وفي كل ميدان، بل قد تشعر أنهم يسكنونك أنت، حين يزج بك الكاتب لتحيى معهم أفراحهم وأتراحهم وأنينهم أسفل كل أشكال القيود، حتى قيود الرغبات التي تجلد الجسد، وتبعده عن الروح ونقاوتها، كما يجعلك تمارس فعل الإبداع في إدراك واقعك الأليم، حين تحياه في سطور الرواية بعيدا عن عيون الآخرين، فينكأ جرح الهروب من الواقع ليلهب فيك روح التمرد مثلما تصنع شخوصه، فإذا به يأخذك إلى عالم سحري من قلب التاريخ ونصوصه بل ووقائعه التي تنطوي على رؤى تقبل الأخذ والرد، ليجعل كل ذلك أمامك واقعا معاشا ينبض بالحياة، ويبرز فيه الإنسان مشدوداً بين كونه فاعلا أو مفعولا به، صانعا للقهر أو مقهورا، وكأن القهر صار طوقا لا يفارق الرقاب، حتى إذا سلم الإنسان من قهر الآخرين له، يمارس القهر على نفسه وعلى أقرب المقربين .
ولقد برع البلكي في محاولة سبر أغوار النفس البشرية، من خلال أبطاله جميعا، بكل ما يحملونه من تناقضات وصراعات خارجية وداخلية، مستعينا في ذلك بتيار الوعي تارة أو الاسترجاع تارة أخري أو المونولوج الداخلي على امتداد الرواية .
ننطلق سريعاً لنؤكد أن رواية البلكي قدمها في حبكة تفكيكية تركن إلى الشخوص، وتباين أفعالها، وتأثيرها على الحدث القصصي سلبا وإيجابا، تقديما وتأخيرا، تقاربا وتباعدا، ولكنه لم يكتف بذلك، بل أراد أن يحفظ للقارئ حقه في تتبع الحدث داخل النص الروائي؛ فأحاط النص بسياج من الحكي، يصنع ما يشبه الحبكة التقليدية في السرد، وهذا تحدي وضع الكاتب نفسه فيه ليضاف إلى التحدي الأكبر الذي خاضه البلكي في محاولة بعث المورث، ليس بمستواه اللغوي فقط ولكن بإنسانية الفعل التراثي القادم من أعماق موروثات تكاد تكون خافية على كثير من الأجيال الحديثة فتتحول العدودة وأغنيات الحقول والأجران إلى نافذة للبوح وطوق نجاة من المعاناة، وللتحايل على الطوق الذي يكبل الرقاب:
فردت قلعي علشان أرحل
خانتني الريح
ودرست جرني
طلع تبني بلا غلاه
وهذا يقودنا إلى الحديث عن اللغة عند البلكي، فعلى الرغم من براعة البلكي في العزف بلغة فنية ساحرة بين بلاغة السرد وواقعية لغة الحوار إلا أننا نجده مهموما بإدهاش المتلقي بالمفردة التراثية، ومحاولة بعثها حية نابضة وفاعلة داخل النص مثل (التاية ، مكس السرحة ، البغلية، القريللا ، القحوف، فردة القدوم، الرماص ) وغيرها الكثير، فلم يتنبه لعدم معرفة المتلقي البسيط بل وكثير من المتعلمين لدلالة هذه المفردات، فما بالك بضرورة إقناعه للجميع بحيوية وفاعلية هذه المفردات داخل النص حتى لا تبدو نتوءاً في السرد، وهذا تحدي آخر وضع الكاتب نفسه فيه على مستوى بنية النص، حتى ليخيل للبعض حين ينشغل الكاتب عن هذا التحدي الذي وضع نفسه فيه أن هذه المورثات اللغوية منقولة بنصها دون تفعيل من سرديات وكتب تاريخ العصر المملوكي
والبلكي رغم براعة استخدامه للتكنيكات الفنية ومستويات اللغة سواء الحوارية أو السردية بمحسناتها وصورها إلا أننا نجده مفتونا بصورة الحكاء والراوي وكأنه يريد أن يتلبسه العصر الذي يصوغ من خلاله شهادته الروائية حتى بأساليب القص والحكي في هذا العصر.
وانشغال البلكي بالإنسان في الرواية انعكس على لغته وتراكيبه اللغوية وأخيلته فعمدت لغته إلى الرومانسية وأسقطت كل معاناة الأبطال على الموجودات المكانية والزمانية داخل النص وكذلك جاءت مشحونة بالأخيلة والصور التي تنبئ عن كاتب مهموم بشخوصه ومصائرهم وبناهم النفسية السوي منها والمضرب وكذلك صنع من الحوار على تقتيره فيه على امتداد النص نافذة أخرى لرصد معاناة شخوصه وأفراحهم وآلامهم ومواقفهم بين الاستسلام والتمرد والرفض ومحاولة تغيير الواقع مما أنقذ الرواية من الوقوع في أسر التسجيلية أو الوثائقية فجاءت الرواية قراءة للحاضر واستشرافا للمستقبل استنادا إلى حقبة غنية بالفعل الإنساني من التاريخ المملوكي الذي يمثل الماضي الذي انطلق منه البلكي في بعده الرؤوي القضوي داخله نصه الإبداعي الذي نستطيع أن نسمه بالنص الإنساني قبل أن نضعه في ركن الرواية التاريخية .
جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays / arts © 2024