باريس- د. خولة خلوف
جيلبر متشرد ستيني كان يحيا في الشارع النائم تحت قدمي بيتي في الدائرة الثانية عشرة في باريس، يقرأ الصحف المجانية المنتشرة في زوايا الحي و يهتم بالأدب و السياسة. كان معظم الوقت ثملاً و لا يقوى على نطق جمل مترابطة مما يوحي لسامعه بأنه أخرق. كنت أتوقف مرات و أنا عائدة من عملي للدردشة معه ، لأنه لي، كان يبدو كائناً حالماً أراد أن يحيا واقعياً حكايات أندريه بروتون أو أشعار بول إيلوار.. ،كنتُ أقدم له السجائر و أبتاع له البيرة المثلجة صيفاً و النبيذ شتاءً كي يعينه على تحمّل البرد. في بعض أيام الشتاء تنخفض درجة الحرارة حتى تصل إلى عشرة تحت الصفر.و في هذه الفترة بالذات كنت أحرص على الاستفسار اليومي عن حالته الصحية و المعنوية . حدث أن سرق لصوص ٌ الفراش الذي كان يندسُّ فيه كي ينام فأحضرت له بطانية و في اليوم التالي وجدته من دون تلك البطانية فسألته عنها فقال:" سرقها الخبثاء"، فأحضرت له غيرها و حين حين مررت به في اليوم التالي فوجئت بالدماء المتخثرة و القروح و الكدمات تغطي وجهه، فسألته عمّا حدث. فقال : " قاومت الخبثاء حين أرادوا انتزاع البطانية عني فضربوني" فاقترحت عليه من فوري الاتصال بالجهات المختصة كي تجد له مأوى فصاح : "لآلآلآلآلآلآلآلآلآلآ، اقترحتْ عليّ البلدية غرفة مساحتها 20 متراً و رفضتها. أنا لا أحتمل القضبان و أفضّل الحرية، الحيطان تخنقني كما لو كنت في سجن، أفضل العراء عليها".
فكّرت حينها أن الارادة هي فقط ما يصنع الفرق بين التشرد و الحرية و فكرت أن كنزتي صوف ستحلان ربما مشكلة البرد.. قد يبدو للناظر المتعجل أن جيلبر ليس إلا عبداً لشرطه الوجودي البائس و لكن حريته تكمن تحديداً في هذا ، ألم يقل جبران كما قال المتصوفة من قبله من أراد الحرية فليصل إلى العبودية!!!
مرّت موجة برد قاسية في الشتاء التالي في باريس فأخذت جيلبر معها