على الرغم من أن رصيد المخرج السوري الدكتور محمد قارصلي يصل إلى أكثر من مئة فيلم سينمائي قصير ومتوسط وطويل إلا أن معظم هذه الأفلام لم تعرض في وطنه الذي لم يكرمه سوى مرة واحدة في مهرجان مصياف المسرحي مقابل تكريمه لمرات عديدة في مهرجانات دولية.
وتتميز تجربة المخرج الستيني المولود في دمشق عام 1950 بالغنى والتنوع فلم يترك مجالا إبداعيا إلا وخاض غماره فهو مخرج سينمائي وتلفزيوني ومسرحي وكاتب سيناريو ومؤلف مسرحي للكبار والأطفال والناشئة وأستاذ في الإخراج وإعداد وتدريب الممثل ومحاضر في مركز التدريب الإذاعي والتلفزيوني وفي النوادي السينمائية في عدد من دول العالم وقدم العديد من الدراسات والمقالات والترجمات والنشرات التخصصية والاستشارات الدرامية.
وفي حديث خاص لوكالة سانا قال الدكتور قارصلي: "طريقتي في التعبير جعلتني متعدد المواهب والاتجاهات ويبقى لكل من هذه المجالات قوانينه الإبداعية الخاصة فيه فعندما أكتب نصا مسرحيا أتعامل معه ككاتب .. وعندما أخرج نصا أنسى نفسي ككاتب واتحول إلى مخرج يتعامل مع النص من منظور الإخراج .. ورغم أنني أجد نفسي في السينما إلا أن كل عمل لدي يبدأ ومعه شكله الفني انطلاقا من أحد عناويني الكبيرة وهو الحب فلا يمكن أن أعمل عملا لا أحبه ومن هنا تأتي الرهافة والدقة التي تحدث عنها النقاد في أعمالي وهي ناتجة عن أنني يجب أن أحب وأعشق موضوعي وأعمل بكد ودون تعب فالفن والكسل لا يجتمعان".
ولكن هذه التجارب الغنية عانت من فقر شديد في التمويل فمؤسسة السينما مثلا لا تنفذ فيلما لمخرج إلا في حالتين .. أن يكون المخرج موظفا لديها أو يكون غير سوري "ولدي الآن سبعة سيناريوهات لأفلام سينمائية طويلة لم أستطع تنفيذ أي منها بالرغم من أن أحدها أخذ جائزة لجنة التحكيم في مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي".
وقد يكون الدكتور قارصلي الذي درس الماجستير والدكتوراه في أكاديمية السينما بموسكو المخرج الوحيد في سورية الذي حصل على عشرين جائزة أغلبها دولية ليست إقليمية ولا عربية أربع منها في مهرجان توياما باليابان وجائزة أفضل فيلم في آسيا وثاني أفضل فيلم بالعالم بمسابقة الأمم المتحدة وجائزة ذهبية بكالكوتا لم يسبقه إليها أحد.
ويقول إن معظم أفلامه كانت بتمويل خاص أو من منظمات دولية كالصليب الأحمر أو الأمم المتحدة ولكن هذه المنظمات قطعت تمويلها في السنوات الأخيرة في إطار الضغوط الاقتصادية على سورية فلجأ إلى المسرح لكونه غير مكلف ومع ذلك أبدع فيه فنالت مسرحيته "فجر وغروب" ست جوائز في اليابان والهند وعرضت في سبع وعشرين دولة بتمويل ذاتي .. ولكن وزارة الثقافة رفضت عرضها في سورية بالرغم من نجاحها دوليا.
وفي مجال البيئة وتلوث الهواء قدم المخرج قارصلي ستة أفلام قصيرة نالت الجوائز في دول عالمية مختلفة ولكن وزارات البيئة المتعاقبة منذ عام 2000 وحتى الآن رفضت عرض أي منها بحجة أنها ليست من إنتاجها وخصوصا فيلم "غدا" الذي يعالج الأخطار المحيقة بالبيئة على أرضنا والمستقبل القاتم الذي ينتظرنا فيما لو استمرينا بالهدر والاستهتار واللامبالاة والإساءة للطبيعة من حولنا .. والفيلم يتطرق إلى هذه المواضيع بأسلوب فني خاص ولغة بصرية تدفع في نهايتها إلى الدهشة الممزوجة بالصدمة المحزنة.
وعندما قام بابا الفاتيكان بزيارة سورية أهدى المخرج قارصلي التلفزيون السوري فيلما عن التعايش بين الأديان في سورية وهو من إنتاج سويسري إلا أن التلفزيون لم يعرضه.
وعن تجربته في الأفلام الوثائقية التي قاربت ستين فيلما تحدث عن أهمية هذا النوع من الأفلام وتعطش الناس لها والدليل هو اهتمام الناس بهذا النوع من الأفلام عندما تعرض في المراكز الثقافية .. ففي تلفزيونات العالم توجد فترة مخصصة للأفلام الوثائقية ونأمل أن يهتم تلفزيوننا الوطني بهذا النوع من الأفلام وعدم الاقتصار على عرضها في المهرجانات.
وفي عام 2009 قام الدكتور قارصلي بإخراج ثلاثين فيلما وثائقيا ضمن موضوع واحد تحت عنوان "مقامات الشام" بأسلوب فني جمالي يعتمد البحث التاريخي والعلمي والإنساني أنجزها خلال فترة قياسية لا تتجاوز السبعة أشهر.
ويعكف قارصلي حاليا على كتابة مشروع حول إحياء الثقافة الوطنية وهو بمثابة خطة عمل عن كيفية التعامل مع الثقافة مستقبلا إذ يرى في هذا المشروع أن المؤسسات الثقافية السورية كمؤسسة السينما ومديرية المسارح ودار الأوبرا يجب أن تتحول الى مؤسسات خدمية وتتخلى عن الإنتاج فكونها مؤسسات منتجة ذلك يفتح الباب أمام المحسوبيات والشللية والفساد مشيرا إلى أن الدولة في كل من إيران وتونس على سبيل المثال تقوم بتمويل الأفلام ولكنها لا تنتجها.
وأشار بهذا الصدد إلى أن الاسكتشات الأخيرة التي عرضت مؤخرا على التلفزيون السوري حول الأزمة إضافة إلى سويتها الفنية المتدنية عدد الأسماء في الشارة فيها يتجاوز 35 اسما في حين لا يحتاج العمل إلى أكثر من ثلاثة أسماء لإنجازه.
وأضاف قائلا: عندما تم إحداث المؤسسات الثقافية في سورية كالمسرح القومي والهيئة العامة للكتاب ومؤسسة السينما كان ذلك تلبية لحاجة ضرورية وملحة لعدم وجود من يتبنى مشروعا قوميا ثقافيا في ذلك الوقت ولكن مع الزمن تحولت هذه المؤسسات إلى عبء على الثقافة لما أصابها من فساد وترهل ومحسوبية وبيروقراطية.
وتساءل قارصلي: ماذا عملت وزارة الثقافة منذ بدء الأزمة التي تعيشها البلاد علما أن لديها 480 دار ثقافة منتشرة في أنحاء سورية وهذه الأماكن كان يمكن أن تساهم في حل الأزمة بشكل كبير عبر ندوات ومنتديات وحوارات.
وفي مجال الكتابة للأطفال حاز قارصلي على جائزة أفضل نص للناشئة عن مسرحية "حصاة الصبر" في مسابقة وزارة الثقافة وهو بانتظار أن تقوم الوزارة بطباعته .. وآخر إصداراته نصان مسرحيان للكبار بعنوان "حريق اللون حريق الروح" ونص للناشئة بعنوان "حكاية الدرب الطويل".
أما عن أحلامه التي لم تتحقق فهي تتمثل في تنفيذ سبعة سيناريوهات كتبها لأفلام طويلة وعرض 18 نصا مسرحيا وثماني مسرحيات للأطفال وثلاثين سيناريو لمسلسلات درامية.. ولكنه لا يحب أن يكتب مذكراته لأن في حياته من الآلام ما لا يحب أن يحزن الناس به بل يحب دائما أن يفرحهم.
ويتعامل الأستاذ قارصلي مع طلابه على أساس أن كل واحد فيهم هو ند له وكل ما هنالك أنه يعرف أكثر منهم ويتمنى أن يغار يوما ما من تفوق أحدهم عليه وتقديم أعمال تدهشه مشيرا إلى أن العمل مع الطلاب في المجال الإبداعي هو عمل فردي فكل طالب هو حالة خاصة وله مدخله الخاص.
ولقارصلي مقولة ملفتة هي أن "الشيء الأساسي في صناعة الأفلام هو أن تصور كل فيلم على أنه أول وآخر فيلم في حياتك" .. فالمخرج في بداياته يعمل بدافع الحرص والاهتمام لذلك يحاول أن يكون عمله أكثر اتقانا والشيء ذاته عندما يشعر المخرج أن هذا آخر عمل في حياته ما يجعله يهتم بالمقدار نفسه .. ويرى أن الفن والكبت لا يجتمعان فالفن لا يصح بدون حرية داخلية ثم تأتي أهمية الحريات الأخرى.. "وأكثر ما نعانيه مع طلابنا هو إزالة هذا الخوف".
وإذا علمنا أن محمد قارصلي نشأ في بيت يعج بالأجواء الفنية والثقافية لعرفنا سر إبداعه وإنتاجه المتنوع فوالدته اقبال قارصلي من رائدات الفن التشكيلي السوري وأخوه هو الفنان التشكيلي الراحل وليد قارصلي.
